نص معلقة زهير بن أبي سلمى
1 أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَـمْ تَكَـلَّمِ بِـحَوْمانَة الـدَّرَّاجِ فَالْـمُتَثَلَّـمِ
2 وَدارٌ لَهَـا بِالرَّقْمَتَيْـنِ كَأَنَّهَـا مَراجِيعُ وَشْمٍ في نَواشِـرِ مِعْصَـمِ
3 بِهَا العَيْنُ وَالأَرْآمُ يَمْشِينَ خِلْفَةً وَأَطْـلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ
4 وَقَفْتُ بِهَا مِنْ بَعْدِ عِشْرِينَ حِجَّـةً فَـلأيَاً عَرَفْتُ الـدَّارَ بَـعْدَ تَـوَهُّمِ
5 أَثَافِيَّ سُفْعَاً في مُعَرَّسِ مِرْجَـلٍ وَنُـؤْيَاً كَجِذْمِ الحَوْضِ لَـمْ يَتَثَلَّمِ
6 فَلَمَّا عَرَفْتُ الدَّارَ قُلْتُ لِرَبْعِهَـا أَلا انْعِمْ صَبَاحَاً أَيُهَا الرَّبْعُ وَاسْلَـمِ
7 تَبَصَّرْ خَليلِي هَلْ تَرَى مِنْ ظَعائِـنٍ تَـحَمَّلْنَ بِـالْعَلْياءِ مِنْ فَوْقِ جُرْثَمِ
8 جَعَلْنَ الْقَنَانَ عَنْ يَـمِينٍ وَحَزْنَـهُ وَكَمْ بِـالقَنَانِ مِنْ مُـحِلٍّ وَمُحْرِمِ
9 عَلَوْنَ بِأَنْمَاطٍ عِتَـاقٍ وَكِـلَّةٍ وِرَادٍ حَوَاشِـيهَا مُشَـاكِهَةِ الـدَّمِ
10 وَوَرَّكْنَ في السُّوبَانِ يَعْلُوْنَ مَتْنَـهُ عَلَـيْهِنَّ دَلُّ الـنَّـاعِمِ الـمُـتَنَعِّمِ
11 بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرْن بِسُحْـرَةٍ فَهُـنَّ وَوَادِي الـرَّسِّ كَالْيَدِ لِـلْفَمِ
12 وَفِيهِنَّ مَلْهَىً لِلَّطِيـفِ وَمَنْظَرٌ أَنِـيـقٌ لِعَـيْنِ الـنَّاظِرِ الـمُتَوَسِّمِ
13 كَأَنَّ فُتَاتَ الْعِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ نَزَلْنَ بِـهِ حَبُّ الْـفَنَا لَـمْ يُحَطَّمِ
14 فَلَمَّا وَرَدْنَ المَاءَ زُرْقَاً جِـمَامُهُ وَضَـعْنَ عِـصِيَّ الـحَاضِرِ المُتَخَيِّمِ
15 ظَهَرْنَ مِنَ السُّوبَانِ ثُمَّ جَزَعْنَـهُ عَلَى كُلِّ قَـيْنِيٍّ قَـشِيبٍ وَمُـفْأَمِ
16 فَأَقْسَمْتُ بِالْبَيْتِ الذِّي طَافَ حَوْلَهُ رِجَـالٌ بَـنَوْهُ مِنْ قُـرَيْشٍ وَجُرْهُمِ
17 يَمِـينًا لَنِعْمَ الـسَّيدَانِ وُجِـدْتُمَا عَـلَى كُلِّ حَـالٍ مِنْ سَحِيلٍ وَمُبْرَمِ
18 تَدَارَكْتُما عَبْسَاً وَذُبْـيَانَ بَـعْدَمَا تَـفَانَوْا وَدَقُّـوا بَـيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشَمِ
19 وَقَدْ قُلْتُمَا إِنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعاً بِـمَالٍ وَمَـعْرُوفٍ مِنَ الْقَوْلِ نَسْلَمِ
20 فَأَصْبَحْتُمَا مِنْهَا عَـلَى خَيْرِ مَوْطِنٍ بَـعِيدَيْن فِيهَا مِنْ عُقُوقٍ وَمَـأْثَمِ
21 عَظِيمَيْنِ في عُلْيَا مَـعَدٍّ هُدِيْتُمَـا وَمَنْ يَسْتَبِحْ كَنْزَاً مِنْ المَجْدِ يَعْظُمِ
22 تُـعَفَّى الْـكُلُومُ بِالْمِئيِنَ فَأَصْبَحَتْ يُـنَجِّمُهَا مَنْ لَـيْسَ فِيهَا بِـمُجْرِمِ
23 يُـنَـجِّمُهَا قَوْمٌ لِـقَـوْمٍ غَـرَامَةً وَلَـمْ يُهَرِيقُوا بَيْنَهُمْ مِلْءَ مِحْجَمِ
24 فَـأَصْبَحَ يَـجْرِي فِيهِمُ مِنْ تِلاَدِكُمْ مَغَـانِمُ شَتَّى مِـنْ إِفَـالٍ مُـزَنَّمِ
25 أَلاَ أَبْلِـغِ الأَحْلاَفَ عَـنِّي رِسَـالَةً وَذُبْـيَانَ هَلْ أَقْسَمْتمُ كُـلَّ مُـقْسَمِ
26 فَلاَ تَـكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي نُـفُوسِكُمْ لِـيَخْفَى وَمَهْمَا يُـكْتَمِ اللهُ يَـعْلَمِ
27 يُـؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فـي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ لِـيَوْمِ الْحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَـيُنْقَمِ
28 وَمَا الـحَرْبُ إِلاَّ مَـا عَلِمْتمْ وَذُقْتُمُ وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِـالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
29 مَتَـى تَـبْعَثُوهَا تَـبْعَثُوهَا ذَمِـيمَةً وَتَضْـرَ إِذَا ضَـرَّيْتُمُوهَا فَـتَضْرَمِ
30 فَـتَعْرُككُمُ عَرْكَ الـرَّحَى بِـثِفَالِهَا وَتَلْـقَحْ كِشَافَاً ثُمَّ تُنْـتَجْ فَـتُتْئِمِ
31 فَتُنْـتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْـأَمَ كُـلُّهُمْ كَأَحْمَرِ عَـادٍ ثُمَّ تُـرْضِعْ فَـتَفْطِمِ
32 فَـتُغْلِلْ لَكُمْ مَا لاَ تُـغِلُّ لأَهْلِهَا قُرَىً بِـالْعِرَاقِ مِنْ قَـفِيزٍ وَدِرْهَمِ
33 لَعَمْرِي لَـنِعْمَ الـحَيُّ جَـرَّ عَلَيْهِمُ بِمَا لاَ يُوَاتِيهِم حُصَيْنُ بْنُ ضَمْضَمِ
34 وَكَانَ طَوَى كَـشْحًا عَلَى مُسْتَكِنَّةٍ فَـلاَ هُـوَ أَبْدَاهَا وَلَـمْ يَـتَقَدَّمِ
35 وَقَالَ سَأَقْضِي حَـاجَتِي ثُـمَّ أَتَّقِي عَـدُوِّي بِأَلْفٍ مِنْ وَرَائِـيَ مُلْجَمِ
36 فَشَـدَّ وَلَـمْ يُـفْزِعْ بُـيُوتاً كَثِيَرةً لَدَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أُمُّ قَشْعَمِ
37 لَدَى أَسَـدٍ شَاكِي الـسِلاحِ مُقَذَّفٍ لَـهُ لِبَـدٌ أَظْفَـارُهُ لَـمْ تُـقَلَّمِ
38 جَـرِيءٍ مَتَى يُـظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِ سَـرِيعاً وَإِلا يُـبْدَ بِالظُّلْمِ يَـظْلِمِ
39 رَعَـوْا ما رعوا من ظمئهم ثم أَوْرَدُوا غِمَـارَاً تَـفَرَّى بِالسِّلاحِ وَبِـالدَّمِ
40 فَقضوا منايا بينهم ثُـمَّ أَصْدَرُوا إِلـى كَـلإٍٍٍٍ مُسْـتَوْبِلٍ مُـتَوَخِّمِ
41 لَـعَمْرُكَ مَا جَرَّت عَلَيْهِمْ رِماحُهُمْ دَمَ ابـنِ نَهِيكٍ أَو قَتِـيلِ الـمُثَلَّمِ
42 وَلا شَـارَكَتْ في الموْتِ فِي دَمِ نَوْفَلٍ وَلا وَهَبٍ مِنْهُم وَلا ابْـنِ المُخَزَّمِ
43 فَكُـلاً أَراهُـمْ أَصْـبَحُوا يَـعْقِلُونَهُ صَـحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بِمَخْرَمِ
44 لَحِيٍّ حِـلالٍ يَـعْصُمُ النَّاسَ أَمْرَهُمْ إِذا طَرَقَتْ إِحْدِى الَّـليَالِي بِمُعْظَمِ
45 كِرَامٍ فَلا ذُو الـضِّغْنِ يُدْرِكُ تَبْلَهُ وَلا الجَارِمُ الـجَانِي عَلَيْهِمْ بِمُسْلَمِ
46 سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الـحَياةِ وَمَنْ يَعِشْ ثَـمَانِينَ حَوْلاً لا أَبَـا لَكَ يَـسْأَمِ
47 وأَعْـلَمُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ وَلـكِنّني عَـنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ
48 رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ تُـمِتْهُ وَمَنْ تُـخْطِىءْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ
49 وَمَنْ لَـمْ يُـصَانِعْ في أُمُورٍ كَثِيرةٍ يُـضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُـوْطَأْ بِمَنْسِمِ
50 وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ يَفِرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الـشَّتْمَ يُشْتَمِ
51 وَمَنْ يَـكُ ذَا فَـضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِهِ عَلَى قَـوْمِهِ يُسْـتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ
52 وَمَنْ يُـوْفِ لا يُذْمَمْ وَمَنْ يُهْدَ قَلْبُهُ إِلى مُـطْمَئِنِّ الْـبِرِّ لا يَتَجَمْجَمِ
53 وَمَنْ هَـابَ أَسْـبَابَ الـمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَإِنْ يَرْقَ أَسْـبَابَ السَّمَاءِ بِـسُلَّمِ
54 وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ يَكُنْ حَـمْدُهُ ذَماً عَـلَيْهِ وَيَـنْدَمِ
55 وَمَنْ يَـعْصِ أَطْـرافَ الزِّجَاجِ فَإِنَّهُ يُـطِيعُ الـعَوَالِي رُكِّبَتْ كُلَّ لَهْذَمِ
56 وَمَنْ لَـمْ يَـذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ يُـهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ الـنَّاسَ يُظْلَمِ
57 وَمَنْ يَـغْتَرِبْ يَحْسِبْ عَدُواً صَدِيقَهُ وَمَنْ لا يُكَرِّمْ نَـفْسَهُ لا يُـكَرَّمِ
58 وَمَهْمَا تَـكُنْ عِنْدَ أمرِيءٍ مَنْ خَلِيقَةٍ وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
59 وَكَائِن تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ زِيَـادَتُـهُ أَو نَقْصُهُ فِي الـتَّكَلُمِ
60 لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ فَـلَمْ يَبْقَ إَلا صُورَةُ الـلَّحْمِ وَالدَّمِ
61 وَإَنَّ سَفَاهَ الـشَّيْخِ لا حِلْمَ بَـعْدَهُ وَإِنَّ الـفَتَى بَعْدَ الـسَّفَاهَةِ يَحْلُمِ
62 سَألْـنَا فَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنَا فَـعُدْتُمُ وَمَنْ أَكْثَرَ الـتَّسْآلَ يَوْماً سَيُحْرَمِ
تحليل سيميائي لمعلقة زهير
د. عمر محمد الطالب
ينطلق من معاناة قصد معرفة المكان والتحقق منه، ليعقب ذلك كله ولادة وحركة متمثلة في سير الظعائن نرى منها نقش الثياب المنشورة على الهوادج وأهدابها المتدلية منها، تتحرك بقصد إلى الممدوحين، اللذين هما هدف القصيدة وموضوعها الأساس، وهي حلم يتمثل فيه صراع الرغبة والواقع، فمن القفر والخواء في الطلل إلى نبع ماء صاف حيث تبدأ الحياة، ويبدأ معها الاستقرار، وفي ذلك مظهر من مظاهر الحياة الجاهلية التي تعتمد الترحال كوسيلة للبحث عن مساقط المياه في عرض الصحراء، فالماء يتحكم بالعربي، ليس في وجوده الحيوي فقط، بل في وجوده الاجتماعي كله.
إن التلاحم بين القفر والماء والخواء والحركة يجسد الخوف الذي يعتري الإنسان من هروب الأشياء الجميلة وإدبارها السريع أمامه، وفي هذا دلالة على صدور الشاعر عن ذهنية ثاقبة تتجاوز المحسوس، وقد يكون من أسباب عدم استمرار النعيم، آفة الحرب المتكررة في حياة الجاهلي والتي لم تسلم منها القبائل في تاريخها الطويل. ويتكرر الصراع بين الطمأنينة والخوف، بين السلام الذي يسعى به الرجلان والحرب الضارية، التي جسدها الشاعر في أبشع صورة ليعطي المبرر للسلم. وقد قصد الشاعر إلى إيراد المدح الذي يتمثل في الرجلين الساعيين إلى تحقيق السلام قبل الحرب، ووصفها الشنيع، لتحقيق التماسك الداخلي للنص، فالمديح يجب أن يأتي تالياً لوصف الرحلة لأن الرحلة تنهي إلى الممدوح، هذا بالإضافة إلى العنصر المعنوي المتمثل في الربط الوثيق بين بهجة الرحلة ورخاء السلام، وخاصة وأن المديح خال من المغالاة التي يولدها الاصطناع والزلفى، فهو يصور مناقب الرجلين تصويراً يملأ النفس العربية بهجة بالمثل الخلقية العليا، التي يقدرها الإنسان العربي، حيث يخلق هذا العنصر الترغيبي في السلم استحساناً لدى المتلقي، الذي يسعى لتحقيق السلم وتثبيته، ومجانبة كل ما يمكن أن يجر إلى الحرب المذمومة في كل الأحوال. ولكي يضمن الترغيب دوره في محاولة الأفراد في المحافظة على أمن الحياة، يأتي بصورة ترهيبية حية للحرب وقد استعان الشاعر بالتاريخ وبشؤم أحمر ثمود الذي عقر ناقة صالح عليه السلام، فأنزلت فعلته الهلاك بقومه جميعاً، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في عدة مواضع منها:
فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين* فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين(52).
كذبت ثمود بطغواها* إذ انبعث أشقاها* فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها* فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربّهم بذنبهم فسوّاها* ولا يخاف عقباها(53).
ويقدم زهير –ولـه السبق الشعري- هذه الحقيقة التاريخية كشاهد على فظاعة الحرب، حيث يظل الشاعر الوجدان المعبر عن أحاسيس شعبه، ويظل التاريخ شاهداً يضرب فيه المثل، ويستشهد فيه، ويشير الشاعر إلى حصين بن ضمضم الذي قام يثأر لأخيه من عبس، فقتل أحد رجالهم، غير أن القبيلتين –اتقاءً لاستمرار الحرب- استقر الأمر بينهما على عقر القتيل. ويختتم الشاعر قصيدته بتأملات تدور حول الحياة والموت، هذه التأملات المتصلة بتجربة الشاعر من ناحية وبحدة الحرب التي عايشها وعاينها، وقد حققت هذه العناصر الموضوعية في هذه الخاتمة علاقة ارتباط بموضوع القصيدة وحققت حكمها الأخلاقية حضوراً مهماً في توجيه الحياة في السلم والحرب والسعي الذي ابتغاه الرجلان لإيقاف سفك الدماء.
وقد وظف الشاعر الناقة توظيفاً فنياً –وهي تمثل مع الفرس سمة من السمات الموروثة والمرتبطة بالإنسان العربي –حيث أجاد في توزيعها توزيعاً يتجاوب وموضوع المعلقة، فهي رمز للرحيل الدائم والاغتراب المستمر في أعماق النفس، فهي التي قادته في رحلته الطللية، وهي التي قادت الظعائن إلى مساقط المياه، وهي نذير الشؤم بالنسبة لعاقري ناقة صالح عليه السلام، وهي التي ترد القوم موارد الهلاك وهي عندما تلقح وتلد كالحرب التي تلقح فتكبر، وتزداد المصائب، وتتمخض عن دلالتها الويلات والمآسي، وتتحول الناقة في المقابل إلى رمز الخصب والنماء ووقف فواجع الحرب عندما تتحول إلى ديات مدفوعة مقابل ديات القتلى، فقد جعل زهير من الناقة مفتاح الرحمة والمغفرة كما جعلها من قبل مفتاح العقاب والعذاب، وجسد الناقة أخيراً بخيط الموت، فالموت كالناقة التي لا تبصر ليلاً فتتردى في المهاوي أو تطأ سبعاً أو حية. وهكذا نجد القصيدة وحدة متماسكة غير قابلة للتقسيم.
المستوى الصوتي والإيقاعي:
المستوى الصوتي:
تخضع دراسة الأصوات في الخطاب الشعري لعنصر الذوق لأنها لم تصل بعد إلى درجة الدقة والضبط العلميين، ولكن تراكم أصوات معينة أكثر من غيرها في البيت أو المقطوعة أو في القصيدة يُعطي دلالة معينة. ويعد البيت الذي تندرج فيه الإيقاعات على مختلف المستويات بؤرة تكثف سائر خصوصيات الوحدة وتختزلها، وإذا انطلقنا من البيت الأول نجد أن أكثر الأصوات تردداً فيه هي الهمزة والميم بالنسبة للأبيات الخمسة التالية عليه والممثلة للوقوف على الطلل، فعندما يقترب الشاعر من وقفته من الأشياء ذاكراً الأحبة والأماكن تتردد الهمزة أكثر: في البيت الأول (3 مرات)، وفي البيتين الثالث والخامس (مرتين)، وفي البيت السادس (4 مرات)، بينما تقل مرة واحدة عندما ينظر إليها من بعيد في البيتين الثاني والرابع، الشيء الذي يؤكد أن الهمزة –وهي من حروف الحلق- تعبر عن غصة الشاعر ولوعته وهو يتأوه كلما اقترب أكثر مما يثير أشجانه.
ويتفق حرف الميم مع حرف الروي –وهم ميم أيضاً- وهو موزع بشكل غير منتظم في البيت الأول (8 مرات)، وفي البيتين الثاني والثالث (5 مرات)، وفي البيت الرابع (مرتين)، وفي البيت الخامس (4 مرات)، وفي البيت السادس (3 مرات). ويمثل البيت الخامس متوسطاً للميم والهمزة مع تميزه بخاصية ينفرد بها وهي ترافق حركتي الضم والشدة بشكل لافت للبصر والسمع (سُعفا، مُعرس، أثافيّ، يُثلّم) فهو يكثف لحظة الوقوف في عيني الشاعر من تأوه وخراب وأطلال ونتوءات، تعكسها نتوءات الأصوات نفسها، فالهمزة صوت ناتئ بارز إلى أصوات شفوية منبسطة أو مهموسة (س،ف،م) ثم نتوء آخر إلى شدة وغلظ يعبران عن جفاف المكان وخلائه. ويبرز ذلك بالمقارنة مع حركة الظعائن حيث يلاحظ الكسر (الخفض) بشكل لافت للنظر، حتى يصل ذروته في البيت التاسع (علون بأنماط) والذي يعد بؤرة هذا الجزء صوتياً حيث يرد الكسر (12 مرة)، ولا يأتي الكسر في أواخر الكلمات فقط بل في أوائلها ووسطها أيضاً. فتمثل تكثيفاً لحالة من الرقة والليونة والجمال. وقد استحضرها الشاعر لتمحو صورة الأطلال (الخواء) والتي تمثل النقيض لها وهكذا نكون أمام صورتين متناقضتين صوتياً: النتوء مقابل الانبساط والامتداد.
وتلعب الأصوات دوراً في إبراز مقاصد الشاعر أو المساهمة في الإيحاء بإخراج المعاني الضمنية إلى السطح، إلا أنها تقل في المقاطع الموضوعية والتقريرية ولكنها لا تكف عن لعب دورها الجمالي والإيحائي باستمرار، وهذا ما يمكن أن يقال بالنسبة للجزء الخاص بالمديح، ويبدأ الشاعر هذا الجزء بقوله (سعى ساعيا) فزيادة على التجنيس الموجود، بينهما تمثلان نبراً قوياً على حرف السين، حيث يحدث التكرار إحساساً بالسير الحثيث مع الإيحاء بالرفق واللين، وهو ما يوحي به حرف السين المهموس، حيث تعني الحروف المهموسة السيولة والسهولة واليسر.
ينتشر حرف السين في هذه الأبيات بشكل غير مكثف ولكنه دال قوي من ناحية النبر على أكثر الكلمات: (سعى، ساعيا، فأقسمت، السيدان، السلم). ويبلغ حرف السين قمته في البيت التاسع عشر: (السلم، واسعاً، نسلم) وهو البيت الذي يجسد قمة الدعوة إلى السلام، ويجسد الموقف السلمي للوسيطين، تتكرر الكلمة في صيغتين صرفيتين متمايزتين: (السلم، نسلم) لينتهي إلى سلام ممتد وواسع يتمثل صوتياً في حروف مد دالة: (واسعاً، بمال، معروف، قلتما) هذه المرات الأربعة تمثل امتداداً صوتياً يعبر عن الرغبة في امتداد السلم، خاصة بعد أن امتدت الحرب فترة طويلة وعانى منها القوم طويلاً وهو ما يوحيه البيت الثامن عشر الذي يجسد استمرار الحرب: (تداركتما، ذبيان، بعدما، تفانوا، دقوا) حيث يبدو الاتساع الصوتي لهذا البيت وكأنه يحجب الاتساع الذي يليه والدال على السلم إلا أنه محاصر بين بيتين دالين على السلم هما البيتان العشرون والسابع عشر: (يميناً، السيدان، وجدتما، حال، سحيل).
ويبرز في محور الحرب على المستوى الصوتي، النتوء الأكبر داخل النص كله:
1. تسارع حركة النص بشكل مثير، ويرجع ذلك إلى تلاحق الأفعال مع كثرتها واختلافها، زيادة على حرفي الربط الفاء وثم، وخاصة في الأبيات (28-32).
2. انتشار السكون بشكل لا يدل على الزمن المعلق ولا على الهدوء بقدر ما يمثل ذلك النتوء في أجلى صفاته (الحدة)، ويتوالى السكون ناتئاً حاداً في أواسط الكلمات، وأواخرها لمرتين: (علمْتمْ، ذقْتمْ، تضْر، ضريْتموها، تعرْككمْ، تلقحْ، تنْتجْ، ترْضعْ، تفْللْ، تضرْم، تتْئمْ، تفْطمْ تبْعثوها).
3. التضعيف: حيث تتردد أصوات مضعفة مما يقوي الإحساس بالشدة والبأس، ويبدأ هذا المحور بقوة البيت الثامن والعشرين بجملة استثنائية قوية تبرز (إلاّ) المشددة، ثم تتوالى الحروف المضعفة: (ضرّيتموها، المرجّم، الرحّى، كلّهم، تغلّ، ثمّ…).
4. التكرار: تفقد الأصوات المكررة قيمتها الأصلية وتكتسب وضعاً آخر ناتجاً عن وضعية التكرار والتجاور حيث نجد حروفاً مهموسة مثل (التاء) لكنها تصبح شديدة بسبب تكرارها، ومن خلال مجاورتها لحروف أقوى وأشد، ويتردد حرف التاء في خمسة أبيات (28-32) بمعدل (4 مرات) في البيت الواحد، أي يتردد عشرين مرة، هذا إذ لم نضف حرف (الثاء) الذي يمثل المقابل الرخو لحرف التاء. والذي يتكرر (4 مرات) ويبلغ ذروته في البيت الثلاثين: (فتعرككم، تلقح، تنتج، فتتئم) بالإضافة إلى (ثفالها)، وما يقال عن حرف (التاء) يقال عن حرف (الميم)، وهو من الحروف المتوسطة والمائعة، حيث يأخذ قوته من خلال مجاورته لحروف مجهورة أو شديدة، ويبرز هذا التكرار في البيت الثلاثين: (متى، ذميمة، ضريتموها، فتضرم). ويستمد حرف (الميم) قوته من حرف (الضاد) فهو حرف شديد مجهور مطبق، يتردد (3 مرات) متتابعة بشكل قوي سريع: (تضر، ضريتموها، تضرم)، ونجد إلى جانب ذلك حرف (الذال) في كلمتي (ذميمة، إذا) وحرف (الذال) هو المقابل الرخو لحرف (الدال) وحرف (الدال) هو المقابل المنفتح لحرف (الضاد) المطبق، مما يبين لنا هيمنة حرف (الضاد) بالإضافة إلى الجناس الناقص الذي يولده بين الكلمات: (تضر، ضريتموها، تضرم).
والتشكيل الآخر يمثله حرف (الكاف) في البيت الثلاثين: (فتعرككم، عرك، كشافا) فعلاوة على تردده (4 مرات)، يبرز في الجناس بين (تعرككم وعرك)، ويكتسب حرف (الكاف) قوته من مجاورته لحرف مجهور، هو حرف الراء والذي يمتاز بالسيولة، والانتشار، ومن معانيه الدوران والحركة اللولبية المتكررة.
إن محور الحرب يشكل النتوء الصوتي الأكبر في النص استناداً إلى ما دللنا به من أدلة، ونلاحظ ابتداءً من البيت الرابع والثلاثين حركتين داخل المحور:
1-حركة باتجاه تصوير نقض الصلح؛ ويلفت انتباهنا اسم العلم (حصين بن ضمضم) وفيه الحروف الثلاثة (ص، ض، ض) وكأنها توحي بجفائه وغلظته وشدته، وهو ما تحدده بوضوح مكانته في النص ناقضاً للصلح وقاتلاً. وإذا أخذنا (بالقراءة بالتصحيف) يقابلها حرفا (س، ت) أي أن حرفي (الصاد والضاد) يقابلهما حرفان مرققان هما (السين والدال) وهكذا نصبح أمام الاسم الأصلي، (حسين بن دمدم) وقد ذهبت إلى ذلك دائرة المعارف الإسلامية بقولها ((بل إنهما تعهدا- هرم بن سنان والحارث بن عوف- بتحمل دية أخرى عندما كادت فعلته (الحسين بن دمدم) تهدد بنقض معاهدة الصلح)(55). وتسيطر (الشدة) على أهم الكلمات ذات النبر القوي في الأبيات الثلاثة التالية: (الحيّ، جرّ، مستكنّة، يتقدّم، اتّقي، ثمّ، عدويّ، فشدّ، أمّ قشعم)، وتبرز (الهمزة) ثانية حادة ولا سيما في البيت السادس والثلاثين: (سأقضي، اتقي، ألف ورائي) وهي تعبر مباشرة عن رغبة عميقة في الاعتداء والعدوان كأصوات حلقية صادرة من الأعماق ودالة على الحدة والقوة.
ويمثل البيتان (37و 38) تشكيلاً غير منظم للأصوات (د، ذ، ظ) وهي حروف متقاربة المخرج وتتناظر فيما بينها من حيث الشد والرخاوة (د/ذ) والإطباق والانفتاح (د، ذ/ظ)، ويتردد حرف (الدال) أربع مرات (لدى، أسد، لبد، يبد)، وحرف (الذال) مرة واحدة (مقذف)، وحرف (الظاء) خمس مرات (أظفاره، يظلم، بظلمه، بالظلم، يظلم)، ومن الواضح أن صوت (الذال) خافت وباهت، ولكن جميع الأصوات مجهورة مع تفاوتها في القوة: (الشدة /د، الرخاوة/ ذ،ظ، الانفتاح/ د، ذ، الإطباق/ ظ).
وقد أكسبت (الذال) قوتها بالرغم من خفوتها، من حرف (الدال) المكرر أربع مرات وحرف (الظاء) المكرر خمس مرات وبالإضافة إلى ما في هذين البيتين من قوة، تعكسها رمزية الأصوات فيها، فهما يمثلان صورة لحركة دائرية للحروف نفسها، أو لحروف متقاربة المخارج، وبينها تقابل على أكثر من مستوى، ويستمر النتوء في (الهمزة) التي توحي بكل ما هو نابع في العمق من حزن ودمار: (أسد، أظفاره، جريء، إلا) هذا بالإضافة إلى (الهمزة) في شائك التي أصبحت شاك ((حيث قلبت عين الفعل إلى لامه)(56).
هذه الأوليات التي تتحكم في المستوى الصوتي لمحور الحرب، تستمر في مختلف الأبيات، محافظة على العلاقات نفسها والتشكيلات في الانتشار، والاختلاف والتماثل، وإذا اختلفت طبيعة الأصوات ولكن الثابت هو استمرار النتوء الصوتي المتمثل في وجود (الهمزة) باستمرار، وتردد الشدات كما نرى في البيتين (40-41): (أصدروا، كلأ، أوردوا، ظمئهم، فقضوا، ثم، متوخم، ثم، تضرى، السلاح، الدم) هذا بالإضافة إلى تكرار (الراء) خمس مرات: (رعوا، رعوا، أوردوا، غمارا، تضرى) وهو من الحروف السائلة اللولبية مما يوحي بضراوة الحرب واستمرارها وسيلان الدماء فيها.
ويقدم لنا البيتان (41-42) تجميعاً لأسماء الأعلام تسيطر عليها الكسرة الدالة على الرقة والخفض: (ابن نهيك، قتيل، نوفل، واهب، ابن المحزم)، ويتحدد ضعف هؤلاء الأشخاص من خلال طبيعة الأصوات في أسمائهم من جهة، وما تحمله إمكانية الاشتقاق الدلالي من جهة أخرى من حيث الكسر وصيغة (فعيل) في (قتيل وابن نهيك)، ويقدم اسم (ابن المحزم) إمكانية قراءة تصحيفية يصبح معها (ابن المخرم) من الخرم أي الثقب المرادف للضعف لا ابن المحزم من الحزم المرادف للقوة. مع العلم بأن الأسماء الخمسة من القتلة بمقابل (حصين بن ضمضم) بكل فخامته الصوتية وقد جاء مضموماً مرتين.
2-حركة مخصصة للحديث عن الديات يتداخل فيها المديح بوصف الحرب ويبدأ في البيت الرابع والأربعين، وتستمر (الهمزة) ناتئة وبارزة: (أراهم، أصبحوا، ألف، ألف) ثم يقع تحول صوتي حيث تسيطر (الكسرة) بالتدريج على أغلب كلمات الأبيات الثلاثة الأخيرة في هذا المحور: (قوم، لقوم، صميمات مال، طالعات بمخرم، ليحيي حلال، كرام، التبل، تبله، الجاني، بمسلم) وليس من الصدفة أن يميل النص إلى هذه الرقة وهذا الضعف، ونحن في نهاية وصف الحرب والحديث عن الديات ومدح الوسيطين الكريمين.
أما الخاتمة فلا تقدم إمكانيات شعرية كبيرة وبالتالي لا قيمة لرمزية الأصوات فيها، وإن كانت تحمل تشكيلات صوتية وفيرة ولكنها متشابهة وغير موحية.
المستوى الإيقاعي:
يتداخل المستوى الإيقاعي للنص ويتكامل مع المستوى الصوتي للأبيات ويمكن رصد الضوابط المتحكمة في الإيقاع وبالتالي الانتظام الصوتي على الرغم من أن النص محكوم مسبقاً بوحدات ثلاث:
1- وحدة البحر: والبحر الطويل هو الذي يحكم القصيدة والمتكون من التفعيلات (فعولن مفاعيل) مقبوضة العروض على طول القصيدة.
2- وحدة القافية: وحرف الروي هو الميم، موصولة بحرف إشباع (الياء) خالية من الردف.
3- وحدة البناء العام للنص: حيث تتوالى الأبيات في شكل عمودي لا تحيد عنه.
ويكون العروض والضرب وقفتين يتشكل فيهما التقطع الشعوري والنفسي، بفعل الانتظام والتكرار، بحيث تصبح بقية التفعيلات أو الصيغ (ما يعرف بالحشو) تقطيعات شعورية ونفسية تصب في الوقفتين. ويلاحظ أن أغلب أبيات القصيدة يعتريها (في الحشو) التغيير، وهو محدود هنا، ويتمثل في حذف الخامس الساكن أو ما يعرف عروضياً بـ (القبض)، ويطال هذا التغيير جل أبيات القصيدة مع استثناءات محدودة.
ونلاحظ في القسم الأول من القصيدة، أن بيتين لم يلحقهما تغيير هما الثالث والسابع، وأن التغيرات جرت كلها في (فعولن) باستثناء بيت واحد، سواء في الأولى أو الثانية، في الصدر أو العجز، وأن بيتاً واحداً عرف تغييراً في (مفاعلين) هو (البيت الحادي عشر)، وقد جرى مرتين في الصدر وفي العجز وهو البيت الذي غابت منه التغييرات في (فعولن). وإن عدد التغيرات في الصدور لا يقابلها نفس العدد في الاعجاز، أي أنه ليس هناك تماثل بالنسبة لكل الأبيات: لا على مستوى الصدر والعجز ولا بالنسبة للعدد، ولا في رتبة التغيير وموقعه، مع وجود تماثلات جزئية في الأبيات (5، 9، 10، 11، 14)، ويلاحظ من ذلك ما يأتي:
1- إن التكرار والانتظام العروضيين اللذين عرفتهما الأبيات في خواتمها (أي من الأعاريض والأضرب) عوض بخرق كبير على مستوى بقية التفعيلات (الحشو).
2- ليس هناك نظام داخل الخرق، بل تنظيم لفوضى عروضية في الظاهر، ولكنها في العمق لقطاعات نفسية للشاعر يعكسها اضطراب وعدم انتظام تلك التغييرات نفسها، سواء بالنسبة لعددها أو لنوعها أو لموقعها.
أما الأبيات التي لم يلحقها أي تغيير فهي محدودة في القصيدة كلها (الأبيات: 3، 7، 19، 20، 21، 22، 26، 27، 39، 51، 58، 59، 60) وهي تتوزع على محاور النص كله.
وتتميز هذه الأبيات بـ (الامتلاء) على مستوى الوزن والإيقاع، ومن ثم دلالتها على نفس الشاعر القوي والممتد، وبالتالي دلالتها على هدوئه، وتسجيل الشاعر لإيجابية اللحظة، ويمثل البيت التاسع والثلاثون (جريء متى يظلم…) استثناء إذ يبدو من خلال الأصوات المهيمنة عليه والنتوءات البارزة فيه، ومن خلال معجمه، بأنه لا يعكس اية إيجابية، ومع ذلك لا يمكن تفسير امتلائه وخلوه من أي اضطراب عروضي إلا بالهدوء النفسي لدى الشاعر، وهو يصف فظاعة المتحاربين، والناقضين للصلح، في لحظة تعزز فيها الصلح وحقن الدماء.
ويكون الشاعر هادئاً في حالة وصف الأشياء من بعيد (الأطلال وبداية وصف الظعائن) وما تلبث الأبيات أن تضطرب، حاملة عدة تغييرات، مما يدل على تدرج الشاعر من حالة الهدوء والاطمئنان إلى حالة الانفعال، مع بقائه في دائرة الإيجاب.
وتتمثل حالة الراحة النفسية إزاء ما قام به الوسيطان، حيث تفرض اللحظة مدى (امتلائه) سعادة (واتساع) نشوته بالسلم، مما ينعكس على امتلاء هذه الأبيات المدحية وزناً وإيقاعاً وتعبيرها عن اتساع صوتي متمثل في انتشار حروف المد، كما بينا سابقاً. ويصدق الشيء نفسه على البيتين اللذين يحملان معجماً دينياً وقناعة تامة في الخاتمة الحكمية.
ويلاحظ في القافية أن حرف الروي هو الميم المكسورة بلا استثناء، وقد يتردد حرف الميم في البيت الواحد، وقد بلغ ذروته في البيتين الأول والخامس والعشرين (8 مرات و 9 مرات)، وهذا الانتشار بالرغم من عدم انتظامه وتفاوته بين الأبيات يشكل تناغماً واضحاً، ويمثل روافد صغيرة تصب كلها أخيراً في مصب القافية والروي.
ويلاحظ أن حركة الحرف ما قبل الروي، هي الفتح غالباً فيما عدا حركة الضم في البيتين السابع (جرثُم) والسابع عشر (جرهُم). ويظهر تناوب ما بين الفتحة والكسرة عند وصف الظعائن. (البيت 9 الدّم، 12 المتوسّم، 11 الفَم، 11 مُحرِم، 15 مفأم، 10 المتنعِّم، 13 يحطَّم، 14 المتخيّم) ونتبين من كل ذلك انتظاماً وانتشاراً للكسر إما بشكل ظاهر أو بواسطة (التعويض) ولكن الفتح يبقى بارزاً وناتئاً في أغلب أبيات القصيدة، على الرغم من وجود نتوءات معاكسة تبرز من حين لآخر متمثلة في حركتي الكسر والضم.
ويمكننا أن نستنتج وجود قانون ينظم كل تلك التشكيلات الصوتية والإيقاعية هو قانون (النتوء والامتداد). ويمكنه أن يتفرع إلى ثنائيات أخرى يتضمنها أو تتولد عنه مثل: الانقباض/ الانبساط، الضيق/ الاتساع.
معجم النص:
1-طبيعة المعجم:
يقول يوري لتمان ((رغم كل الأهمية التي يكتسبها كل مستوى موضح في النص الفني، في تشكيل البنية الكلية للعمل، فإن الكلمة تبقى الوحدة الأساس للبناء الفني اللغوي، فكل الطبقات البنيوية ما تحت الكلمة (التنظيم على مستوى أجزاء الكلمة)، وما فوق الكلمة (التنظيم على مستوى المتواليات) لا تكتسب دلالتها إلا من خلال علاقتها بالمستوى المشكل من قبل الكلمات))(57). وعلى هذا الأساس، فإن للمعجم قدرة كبيرة على تحديد البنيات الدلالية الأساسية في النص على الرغم مما للأصوات والمستويات غير اللغوية (التطريزية) من قدرة إيحائية، فإن دراسة المعجم تتيح الكشف عن الحقول الدلالية وتحديدها داخل النص كمفتاح لتحديد البنيات الأساسية لها.
تستوقفنا في الجزء الأول من القصيدة كلمة (دمنة) في البيت الأول، وهي طلل مكان، وتتفرع إلى كلمات أخرى ترادفها أو تشرحها وهي (حومانة، الدراج، المتثلم، ديار، الرقمتين)، ثم تتدرج الكلمات لتتفرع وتتوالد إلى كلمات تدل كلياً أو جزئياً، صراحة أو ضمناً على المكان، وكل ما تستتبعه الوقفة هو من تداعيات وإيحاءات المكان.
تمثل بنية المكان في هذا الجزء النواة الدلالية الأساسية، ويرتبط بها معجم خاص بالزمان، ولو أنه محدد بالنسبة للمكان. فنجد كلمات تدل على الدوام والاستمرار: (مراجع، خلفة، عشرين حجة، لأياً، بعد) وأخرى تدل على اللحظة العابرة: (وقفت، تبصر منظر، بكرن، بكوراً، استحرن، بسحرة، ظهرن، ثم، فلما). وكما نجد اختلافاً في الزمان بين الثبوت والحركة، نجد مثله بالنسبة للمكان. فتضاف ثنائية (الثبوت/ التحول)، مما يمكن من الإعلان عن زمكان بارز ناتئ وآخر متحول متغير، ومن داخل هذا التصنيف العام تظهر جزئيات تآلف المعجم حيث نجد.
1- الترابط المقيد: (سحرن بسحرة، بكرن بكورا، نواشر معصم).
2- الترابط عن طريق التقابل: (بكرن/ استحرن، بكورا/سحرة، محل/ محرم، ينهضن/ مجثم).
3- الترابط الحر: ((ملهى لطيف، منظر أنيق، الناظر المتوسم).
وفي الجزء الخاص بالمديح يمكن رصد الآليات نفسها التي تتحكم في تآلف المعجم.
1- العموم والخصوص: (تبزل العشيرة الدم)، (البيت طاف أقسمت قريش جرهم بنوه).
2- الترابط عن طريق التقابل: (السحيل/ المبرم، مال/ معروف، يؤخر/يعجل).
3- الترابط المقيد: (عبسا –ذبيان، يدخر- يوم الحساب، يحذي – مغانم، إفال – مزنم).
ويتضمن هذا الحقل كل ما له صلة بالقيم والسلوك والمبادئ والمعنويات. (أقسمت، سعى، ساعيا لنعم، تداركتما، السلم، معروف نسلم، خير موطن، عقوق، مأثم، عظيمين، عليا، هديتما، المجد، مجرم، ينجمها، تكتمن، صدوركم). ويلفت الانتباه المعجم الديني الخاص بالمعتقد والذي يبرز في الأبيات (25، 26، 27) ويضاف إلى ما سبق لتعزيز الاتجاه القيمي المعنوي الطاغي على هذا القسم. وأغلب الكلمات فيه تتوالد بشكل دائري حيث يعبر المصرع عن الضمني والعكس، فنجد في تضاعيف مديح الساعيان إلى السلم حديثاً عن الحرب وويلاتها، فمثلاً كلمة (تداركتما) في البيت (18) تعبر عن تدارك الوسيطين للموقف وإبرام الصلح، واللاتدارك يعني استمرار الحرب ضمنياً. وهو الأمر الذي لا يلبث البيت أن يعبر عنه (بعدما تفانوا)، ويقال الشيء نفسه عن(العقوق، والمجد) وغيرهما من الكلمات.
ويتضمن هذا الجزء أكبر عدد من أسماء الأعلام: (غيظ بن مرة، البيت، قريش، جرهم، السيدان، عبسا ذبيان، منشم، معد). ويثير فينا معظم هذه الأسماء إحساساً سلبياً (غيظ بن مرة/ الغيظ والمرارة، عبسا/ العبوس، ذبيان/ الذوبان، معد/ الاعتداء).
المعجم الدلالي المعبر عن الحرب أو ما يتصل بها طاغ في الجزء الخاص بالحرب: (ذميمة، تضر، ضريتموها، تضرم، تعرككم، عرك، مستكنة، أسد، عدوي، فشد، أم قشعم، شاكي، السلاح، مقذف، أظفاره، يظلم، منايا، مستوبل، متوهم، غمارا، تغري، السلاح، الدم، رماهم، قتيل، الموت). ونجد حقولاً دلالية جزئية مثل حقا الإنجاب والأمومة: (تلقح، كشافا تنتج، تتئم، غلمان، ترضع، تفطم). كما نجد أن آليات توليف المعجم نفسها لا زالت متحكمة:
1- الترابط المقيد: (الرحى عرك ثقالها، تلقح تنتج تتئم غلمان).
2- التقابل: (ترضع/ تفطم).
3- المجاز والكناية: (أم قشعم الحرب، طوى كشحا تدبر أمرا).
4- الجناس: (تضر –ضريتموها- تضرم).
إن المعجم الدال على الحرب ونتائجها، عبر عنه تعبيراً مباشراً، واستعير من حقول دلالية أخرى (طبيعية واجتماعية)، وهو الجزء الأكثر لجوءاً إلى التصوير في النص كله. وإن أهم الحقول الدلالية المكونة لمعجم هذا الجزء يرتبط بما هو اقتصادي ومالي، وبالخصوص الحديث عن الديات. على الرغم من تداخله مع الأجزاء الأخرى في القصيدة: (تغلل، تغل، قفير، درهم، كلأ، أصدروا، أوردا، يعقلونه، ألف، غرامة، مال).
ويبرز في الخاتمة الحكمية القاموس القيمي المعنوي بشكل أقوى: (سئمت، يعلم، يصانع، يذد، يظلم، هاب، يعص، يطيع، يوف، يغض، قلبه، مطمئن، البر، يكرم، خليقة، نفسه، يغنها). وحقل إنساني يتصل بالمعنوي: (تكاليف، يعيش، المنايا، تمته، يعمر، يهرم، عمي، يضرس، يوطأ، يذمم، يغره، الشتم، حوضه، يهدم، عدوا، صديقه، امري، الناس). وتتداخل حقول دلالية أخرى بشكل محدود عن طريق المجاز: (أسباب –سلم، الزجاج –العوالي –يهزم).
ويلعب التقابل دوراً أساسياً في توليف معجم هذا الجزء: (تصب/ تخطئ، تمت/ يعمر، اليوم/ الأمس، غد، أعلم/عمي، فضل/ يبخل، يعص/ طيع، الزجاج/العوالي، عدوا/ صديقه، تخفى/ تعلم). مما يدلل هذا الانتظام على أن هذه الأبيات الحكمية قوانين وقواعد متشابهة.
ويستمر الترابط عن طريق التقابل بشكل ضمني أو مباشر، حيث تستخدم حروف أدوات لتأدية المعنى المقابل، خاصة حروف النفي التي تقلب معنى الكلمة: (لا يصانع/ يضرس، يوطأ، لا يتق/ يشتم، لا يندد/ يهدم، لا يظلم، يظلم، يوف/ لا يذمم، لا يكرم/ يكرم).
وتصل هذه الانتظامية في تآلف المجتمع الحكمي إلى حد اللعب بالكلمات عن طريق الجناس التام أو الناقص (أسباب- أسباب، نال- ينلنه). وآخر مظهر لهذا الانتظام هو التكرار:
1-عن طريق الإعادة: (فضل- فضل، المنايا- المنايا، الناس- الناس).
2-الجناس: (أسباب- أسباب، علم- عمي) عن طريق التصحيف والقلب.
3-الاشتقاق: (يشتم- الشتم، يظلم- الظلم، أعلم- علم).
ويتحكم في معجم النص الترابط المقيد: (الذود الحوض السلاح يهدم، العوالي الزجاج لهذم).
2-بنية التنوع والتعارض:
إن المعجم الشعري الجاهلي، يبتعد عن الخرق الكبير وإحداث فجوات معجمية دلالية كبرى، وتحافظ على حقول دلالية يشترك فيها أغلب النتاج الشعري الجاهلي:
- الحقل الطبيعي: (طبيعة، حيوان، نبات).
- الحقل الإنساني: (كل ما يتصل بالإنسان وأحواله).
- الحقل القيمي: (كل ما له علاقة بالمجردات).
- الحقل المعتقدي: (وثني، ما قبل ديني، ديني).
والمعجم السائد في هذا النص، المعجم الطبيعي والمعنوي، يتمثل الأول في الجزء الأول من القصيدة، والثاني يتمثل في الجزء الثاني والرابع، أما معجم الحرب وما يرتبط بها فيتردد في أغلب أجزاء النص باستثناء الجزء الأول، ويبرز في الجزء الثالث. أما المعجم المعتقدي فيظهر في الجزء الثاني خاصة ويعكس اتجاه معتقد ما قبل الإسلام، أما المعجم الاقتصادي والمالي فيظهر على الخصوص في الحديث عن الديات بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق الاستعارة أو الترابط المعجمي.
إن هذا التنوع الذي يطبع النص كله، ينتظم وفق قانون التحول، حيث نلاحظ:
- سيادة المعجم الطبيعي المادي على الجزء الأول.
- ثم يحدث تحول بارز حيث يسود المعجم المعنوي في الجزء الثاني.
- عودة إلى المعجم الطبيعي في الجزء الثالث الخاص بالحرب.
- سيادة شبه مطلقة للمعجم المعنوي في الجزء الرابع، الحكمي.
ويخفي هذا التحول أهم بنية محددة لهذا النص من خلال معجمه، هي بنية التعارض.
1- السلبي/ الإيجابي (غير المرغوب فيه القدحي/ المرغوب فيه المدحي)، وتتحد سلبية وإيجابية الكلمات إما بشكل مباشر: (سعى/ تبزل)، أو عن طريق القلب والنفي:
(لا يظلم/ لا يتجمجم)، أو عن طريق السياق: (تغلل/ الحرب). وبالإضافة إلى تردد المعجم السلبي بشكل أكبر، تبتدئ الأجزاء الثلاثة بكلمات سلبية، الأول (دمنة) الثالث (الحرب)، الرابع (سئمت). باستثناء الثاني يفتتح
يتبع