لــــــغـــــــة الــــــضـــــا د

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
لــــــغـــــــة الــــــضـــــا د

منتدى الغة العربيه


    البطولــة

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 116
    تاريخ التسجيل : 09/01/2010

    البطولــة Empty البطولــة

    مُساهمة  Admin الثلاثاء يناير 12, 2010 3:00 pm







    البطولــة



    ( 1 )

    لقد تجلت في الحياة الجاهلية مظاهر الصراع والقتال، وقد رافق هذا حديث عن الشجاعة والجبن، وقد عبر الشعراء في أثناء صراعهم مع خصومهم في ساحات القتال أو بعدها عن هذه المظاهر، فكان الحديث عما اصطلح عليه » الحماسة « التي تعني وصفاً للبطولة وتعبيراً عن تجلياتها، أو شحذاً للهمم وتحميساً لأبناء القبيلة، وقد مثلت هذه الأبعاد المتعددة إرساء مثل أعلى للبطولة عبر عنه الشعراء .

    ونلتقي في هذا السياق بنمطين من أنماط البطولة في الشعر الجاهلي، البطولة الفردية، والبطولة الجماعية، وتتميز البطولة الفردية في أنها تعبر عن بطولة الفارس الفرد وقيمه وأخلاقه وتضحياته وما يؤرق وجدانه ومشاعره، ويمثل هذا النمط عدد من الشعراء نتوقف عند اثنين منهم : عنترة بن شداد، وعمرو بن معدي كرب، أما البطولة الجماعية فإنها تعبر عن القبيلة وتلتحم بها، وسنتوقف عند الفند الزماني وعمرو بن كلثوم بوصفهما معبرين عن هذا التلاحم مع القبيلة واقعاً، وتعبيراً فنياً .



    عنترة بن شداد وملامح البطولة الفردية :

    وُلِدَ عنترة بن شداد لأَمَةٍ حبشية سوداء، نقلت إليه لونها وعبوديتها، فأضحى عبداً في مجتمع يقسم أبناءه إلى طبقات، تعلوها طبقة الأحرار، وتقع في قاعها طبقة العبيد ولم يكن مصير عنترة بدعة في المجتمع الجاهلي الذي يعيش فيه، فكان أمثاله الكثيرين .

    وكان مصير العبيد في الجاهلية يتأرجح بين بعدين: الأول الاستسلام المطلق لقدرية اللون، ويقوده هذا إلى التكيف مع الواقع، مؤثراً الإنسان الأسود العبودية على القتل، الثاني : أنْ يتمرد الإنسان على البناء الاجتماعي القاسي، فيهرب ليعيش ضمن جماعات أُطلق عليها الصعاليك، مثل : السليلك بن السلكة، وتأبط شراً، وأضرابهما .

    ولم يؤثر عنترة سيرة العبيد الخانعين، كما أنه رفض الخروج عن الجماعة ليكون صعلوكاً، ولكنه آثر أنْ ينال حريته، وأنْ يسترد نسبه، وانْ يبني أسرة كريمة . غير انَّ عنترة ألفى نفسه أسير عائق لم يكن له يد في صنعه، وقد تولدت عن هذا العائق عوائق اجتماعية ونفسية كثيرة متعددة منها :

    عدم اعتراف أبيه به إلا بعد أن أثبت بطولة وشجاعة، وكان الاعتراف به بعد تردد كثير . ولكنه على أي حال لم يمنحه حقوقه كاملة، إذ بقى في نظر القبيلة العبد الذي تُعنى به وتهتم به وقت الحاجة إليه في الحرب .

    موقف سلبي من ابنة عمه عبلة، وليس هناك ما يدل على أنها تحبه، ولكن تتجلى في قصائده الشعرية ما يدل على أنها تقلل من شأنه بسبب لونه، أو انها غاضبة عليه .

    موقف عمه مالك والد عبلة الرافض من تزويج ابنته لعبد أسود، وهذا يؤكد النظرة الاجتماعية التي تقلل من شأن الإنسان بسبب لونه، على الرغم من أنَّ والده اعترف به ومنحه حريته .

    إنَّ العوائق الاجتماعية المختلفة ولّدت عقدة الشعور بالنقص لدى عنترة بن شداد وكان عنترة يعبر عن معضلة اللون بالإشارة مرة، وبالتصريح مرة، ويمكننا أن نتوقف عند ثلاثة أبيات شعرية تعبر عن هذه العقدة وعن أثارها، يقول عنترة بن شداد مخاطباً ابنة عمه عبلة :

    إنْ تـُغـدفي دوني الـقِـنـاعَ فإنّـنـي

    طَبٌ بأَخذِ الفَارسِ الـمَـســتَـلئِمِ




    ولعل هذا البيت واحد من الأبيات الشعرية التي يمكنها أن تكون مفتاحاً يكشف عن شخصية عنترة بن شداد، ولعله يساعدنا أيضاً على فهم نفسيته وموقفه من ذاته ومن الآخر، سواء أكان امرأة أم رجلاً .

    إنَّ عبلة في هذا البيت ترخي قناعها دون عنترة، أي أنها تستتر دون الشاعر وعلى الرغم من رقة القناع وبساطته فإنَّ الشاعر لا يستطيع اقتحام هذا القناع، ولكنه يؤكد لها أنه حاذق في قتل الفارس الذي يتترس بلامة حربه، أي أنَّ هناك قناعاً تترست به عبلة من نظرات ابن عمها،كما أنَّ هناك قناعا - درعا - يتترس به الفارس من سيف عنترة والشاعر في حقيقته قادر على الفارس ودرعه، وليس بقـادر على تمزيق قناع ابنة عمه عبلة .

    وفي ظني أنَّ الأمر لا يخلو من أبعاد رمزية تعبر عن حالة نفسية يعيشها الشاعر فالقناع هنا له ثلاثة أبعاد، أحدها : قناع الفتاة، وثانيها : قناع الفارس المستلئم بلامة حربه، وثالثها : وهو أخطرها وهو القناع الطبيعي الذي يرتديه عنترة، وهو لونه الأسود . إنَّ إسدال القناع أثار لدى الشاعر إحساسه بعبوديته فكان رد فعله إظهار فروسيته وشجاعته، بوصفهما شكلاً من أشكال التعويض عن الشعور بالنقص باللون .

    ومن الجدير بالإشارة إنَّ قناع الشاعر قناع ثابت يحمل معه مأساة الشاعر وعذابه في حين مثَّل القناعان الآخران بعدين متغيرين يتأثران بالواقع سواء أكان اجتماعياً أم قتالياً إذن فهناك قناع لا سبيل إلى إزاحته وتغييره، وهناك قناعان متغيران فوظيفة القناع الذي تسدله الفتاة تعود إلى استتار الجمال ومن ثم حمايته، وفي هذا دلالة رمزية اجتماعية، تدل على تعذر وصول الشاعر إلى القناع، وتحقيق التواصل مع صاحبته تماماً كما انَّ وظيفة الدرع استتار للجسد وحمايته له في آن، مع فارق، انَّ الشاعر قادر في هذه الحالة أنْ يمزق الدرع ويمزق صاحبه، لأنه يخضع للقوة الفردية التي يتمكن الشاعر من إحداثها، أما قنـاع الفتاة فهو يخضع للقيم الاجتماعية التي قهرت الشاعر وعذبته .

    ويقول عنترة :

    وليسَ يَعيبُ السيفَ إخلاقُ غِمدِه

    إذا كَانَ في يَومِ الوَغَى قاطعَ الحدِّ



    إن ظاهر هذا البيت حكمة يقصد منها الشاعر الحديث عن السيف والغمد، ولكنه في حقيقته حديث عن الجوهر والعرضي، أو الثابت والمتغير، إذ يمثل السيف الجوهر والثابت لا العرضي والمتغير، فليست القيمة للغمد إنْ كان جديداً أو مزيناً أو بالياً، وإنما القيمة الحقيقية للسيف في حدته وقدرته على القطع في أثناء احتدام الخيول ونشوب المعارك، إذ يشتمل الحديث عن السيف والغمد حديث عن الخارجي الغمد، وعن الداخلي السيف والحق انَّ حديث عنترة هنا إنما هو مقابلة رمزية لقضية الخارج والداخل التي شغلته، أي حديث عن الغمد البالي أو الخارج المتمثل في اللون الأسود، وهو أمر لا قيمة له، وإنما القيمة للداخل السيف، أو جوهر الإنسان الذي يتبدى في سلوكه وأفعاله . ويميل عنترة إلى تفضيل الجوهر على العرض، والثابت على المتغير، وفي هذا يتعرض عنترة إلى معضلة اللون التي تقلقه وتؤرق عليه وجدانه .

    ويمكننا استكمال رؤية عنترة من خلال البيت الشعري الثالث الذي يقول فيه :

    المالُ مالكمُ والعبدُ عبدُكمُ

    فهل عذابُكِ عنّي اليومَ مصروفُ



    إن صدر البيت يقرر حقيقة تؤكد ملامح الفوارق الطبقية، وتنبئ عن ملامح الاستعلاء بين السيد والعبد، طبقة وثراء، ولذا كان الحديث عن العبودية والمال متوازناً في جملتين اسميتين : المالُ مالكمُ والعبدُ عبدُكمُ، وهما متوازنتان نحواً وإيقاعا، فعلى المستوى التركيب النحوي يصل التماثل حداً كبيراً بين المبتدأ والخبر في الجملتين :

    المبتدأ : المال، العبد

    الخبر : مالكم، عبدكم

    ومما يثير الانتباه أنَّ الخبر تكرار للمبتدأ يفيد التوكيد، ولكنه مضاف إلى ضمير الجماعة «مالكم وعبدكم » فهذا يؤكد الملمح الاستعلائي والطبقي .

    أما عجز البيت فهو تركيب ينتقل من الأداء الخبري إلى أداء إنشائي، ويؤدي الاستفهام الاستنكاري ـ هنا ـ دلالة الرفض، وكأنَّ البيت الشعري فيه استسلام في أوله، ومحاولة للخروج في آخره، كما أنَّ التركيب يختلف، إذ ينتقل الخطاب من صيغة الجماعة إلى الإفراد، وينتقل فيه الخطاب من إلغاء دور الشاعر الذي كان مجرد وصف في الانتساب إلى الآخر » مالكم، وعبدكم « إلى التعبير عن الذات » عني «، وكأنَّ الصدر يلغي تماماً وجود الشاعر ويحضر فيه الآخرون ،وحين يرد الشاعر فإنه لا يعدو أن يكون مجرد شيء » مال، أو عبد «، ولكن الصورة تختلف في العجز، إذ يصبح الحديث عن الإنسان » فالعذاب، وعني، ومصروف « تنبئ عن وجود إنساني، يرفض أو يتمرد ويحاول الانتقال إلى التعبير عن ذاته .

    بقي أمر مفاده أنَّ الصدر يشتمل على قدر من التقطيع الصوتي ويرافقه تنغيم في جملتيه المتوازنتين توازناً يكاد أنْ يكون تاماً » والمال مالكم، العبد عبدكم « أما العجز فتكثر فيه حروف المد » عذاب، وعني، ومصروف « فضلا عن أنَّ العجز ليس فيه تقطيع ولا تنغيم، كما هو الحال في الصدر، وكأنَّ هذا الاختلاف في التركيب الصوتي يسهم هو الآخر في الكشف عن دلالات الشطرين المختلفين .

    وقد عبر عنترة بن شداد عن مشكلة اللون الأسود بصراحة، وألح عليها في شعره وتحدث عنها بمرارة مفجعة، لأنَّ اللون قد أرَّقَ الشاعر، وأقضَّ عليه مضجعه، ويرجع هذا لسببين: أحدهما : نسب الشاعر والتحاقه بأبيه، لأنَّ السواد من هذه الناحية يمنع العربي من نسبة ولده إليه، وثانيهما : القيمة الاجتماعية التي تقلل من أهمية السود ومن قيمتهم، فهم عبيد، ولابد أن يعيشوا في قاع المجتمع .

    وكان عنترة يحمل في أعماقه، وتحت هذه القشرة السوداء، نفساً أبية كريمة وتشتمل على طموحات هائلة، وكان يدرك أنه يستحيل عليه تغيير لونه، » وما لسواد جلدي من دواء «، ولكنه حاول أن يغير من انتسابه وتغيير نظرة المجتمع إليه .

    ولقد تحكمت في رؤية عنترة بن شداد ثنائية يمثل السواد أحد بعديها، في حين يمثل البياض البعد الآخر، ولقد تركزت حول اللون الأسود، بوصفه رمزاً لقيمة اجتماعية، كل الخصائص والخصال السيئة، فهو لون الخبث والدونية والتخلف، وقاد هذا إلى شكل من أشكال الشعور بالنقص لدى الشاعر، ولذلك كان يعي دلالة السواد ويحاول تبرير طبيعته، وتعويض ذلك بالبياض الذي يكون فعلاً حميداً .

    ويعمد عنترة إلى إضفاء قيمة على السواد، وكأنه يحاول الفخر بلون السواد ويحاول الفخر بكونه عبداً، ويحاول أنْ يوسع من دلالتة الضيقة المقتصرة على الإنسان إلى أبعد من ذلك، فالمسك أسود اللون، ولكن لا يقلل السواد من أهميته وقيمته، يقول :

    لئِن أَكُ أَسوداً فالـمـسْـكُ لَوْني

    وَ مَا لِـسـوَادِ جِـــلــدي منْ دَواءِ

    ولكن تـَبـعُـدُ الـفـحـشاءُ عني

    كـبـعـدِ الأرضِ عن جوِّ السماءِ



    إنَّ عنترة بن شداد بهذا يضعك أمام معادل موضوعي يتقابل فيه عنترة بلونه الأسود بالمسك ذي اللون الأسود، أي أنَّ اللون لا يحدد قيمة الإنسان، وإنما جوهره هو الذي يحدد قيمته وأهميته، ولم يقتصر عنترة على ذلك، بل حاول تجلية السواد بوصفه نسباً للشاعر في مواطن القتال، يقول :

    أَنا العبدُ الذي خُبّرتِ عنه

    يُلاقي في الكـريهةِ أَلفَ حـــرِّ

    خُلقتُ من الحديدِ أَشدُّ قلباً

    فكيفَ أَخـافُ من بِيضٍ وسُمْـر

    وأَبطشُ بَالكميِّ ولا أَبـالـي

    وأَعلو إلى السِّماكِ بكُلِّ فَخْـــرِ


    ويقول :

    يَعيبونَ لَوني بالسوادِ جَهالةً

    وَلولا سَوادُ الليلِ ما طَلعَ الفَجْــرُ

    وإنْ كَانَ لَوني أَسوداً فَخَصَائِلي

    بَيَاضٌ ومِنْ كَفيَّ يُسْتَنـزلُ القَطْــرُ

    يضر الشاعر ان يعيره أعداؤه بسواد لونه، ولكن ما يضره أكثر أن يعيره قومه بذلك، ويظلمونه ببغيهم وقلة إنصافهم له، على الرغم من أنه فارسهم، وواحد منهم
    يقول :

    أُذَكِّرُ قومي ظلمَهُمْ لِي وبغيَهُـم

    وقِلةَ إنصافي على القُربِ والبُعـدِ

    بَنيتُ لهم بالسيفِ مَجْداً مُشيَّداً

    فلمَا تَناهى مجدُهُم هَدموا مَجـدي

    يَعيبونَ لَوني بالسَّواد وإنمـا

    فِعالُهم بالخُبثِ أَسودُ من جِلْــدي

    ويعي عنترة بن شداد أنه يعيش حالتين في قومه، حالة السلم الذي لا يعدو انْ يكون فيه سوى عبد يقلل قومه من شأنه، وينادونه باسم أمه زبيبة تحقيراً وتقليلاً من أهميته، أما في حالة الحرب فانه تعلو قيمته وأهميته، يقول :

    يُنادونني في السِّلمِ يا بنَ زَبيبَةٍ

    وَعِندَ صِدامِ الخَيْلِ يا بن الأطَـايبِ

    وَلَولا الهَوى مَا ذلَّ مِثلي لِمثلِهم

    ولا خضَعَتْ أُسْـدُ الـفَلا للثَعَـــالبِ

    سيذكُرُني قَوْمِي إذا الخَيْل أَصبحَتْ

    تَجُولُ بِها الفُرسانُ بَينَ المَضَاربِ


    فإنْ هُمْ نَسَوْني فالصَّوارمُ والقَنَا

    تُذَكّـرهُمْ فِعـلي وَوَقْـعَ مَضَـاربــي



    ولعل أقسى أنواع الظلم والمعاناة تلك التي تصدر عن ابنة عمه التي يحبها، عبلة، حين يقـول:

    أَلا يا عَبلُ قد زادَ الـتَّـصـابي

    وَلَجَّ الـيـومَ قومُكِ في عَـــذابي

    وظلَّ هَــواكِ يَنمو كُـلَّ يـَـومٍ

    كَمَا يَنمـو مَـشِـيـبي في شَـبَـابي


    وقوله :

    إلى كَمْ أُدارِي مَنْ تُريدُ مَذلَّتي

    وأَبذُلُ جهدي في رِضَاها وتَغضَبُ

    عـُبـيـلةُ أَيامُ الجمَــالِ قَـلـيـلـةٌ

    لَهَـا دَولـةٌ مَعلــــــومةٌ ثَمُّ تَذْهَـــبُ


    ويبدو أنَّ عبلة كانت تقلل من قيمة عنترة بسبب لونه، ويتجلى ذلك في مرارة التعرض لذلك، ويتمنى أن ترضى عبلة عن أمر لا يستطيع عنترة أن يغيره، يقول :

    لعـلَّ عَبـلةَ تُضحي وهي راضـية

    على سَوَادي وتَمحُو سَوْرةَ الغضبِ



    ويعمد عنترة بن شداد إلى تعويض معضلة الشعور بالنقص باللون بطريقتين : إحداهما: تعويض ذلك بالخصال الحميدة، يقول :

    لئِن أكُ أسوداً فالـمـسـكُ لوني

    و ما لِـسـوادِ جِـــلــدي منْ دواءِ

    ولكن تـَبـعُـدُ الـفـحـشاءُ عني

    كـبـُعْـدِ الأرضِ عن جَوِّ السماءِ


    ويقول :

    تُعّيرني العِدَا بِـسَـوادِ جِلْدي

    وَبِيضُ خَـصـائِلي تَمحُو السَّوادا

    سَلِي يَا عَبلُ قَومَكَ عن فِعالي

    ومَنْ حَضَرَ الوَقِـيـعَـةَ والطِّرادا


    ويقول :

    سَوَادي بَيَاضٌ حِينَ تَبدو شَمائِلي

    وَفِعلي على الإنسان يَزْهو ويَفخَرُ

    ويقول :

    يَـعـيـبـُـونَ لَـوني بالــســـوَادِ جَـهَـالةً

    وَلَولا سَوادُ الليلِ مَا طَـلَـعَ الفَجْـــرُ

    وإنْ كانَ لَـوني أســوداً فـــخــصـائـلـي

    بيـاضٌ ومن كَفيَّ يُـسْـتـنـزلُ القَطْـرُ

    مَحوتُ بذكري في الوَرى ذِكرَ مَنْ مَضَى

    وسُـــدْتُ فلا زيـدٌ يُقالُ ولا عَمْـــرو


    إنَّ هذه النصوص تحاول كلها تعويض شعور الشاعر بالنقص من خلال أفعال حميدة يشتمل عليها جوهر الشاعر، أي أنَّ القيمة الحقيقية لا يحددها اللون الأسود الذي يرتديه الشاعر، وإنما تتجلى قيمته في سماته الأخلاقية الحميدة .

    ولم يكن التعويض مقتصراً على الأخلاق الحميدة ولكنها تتجلى أيضاً من خلال فروسية الشاعر التي تتجاوز الحد، ولذلك كان القتال عنده يوم فرح وسرور، لأنه يشعره في تلك اللحظات بأنه يتجاوز عقدة النقص، وبخاصة أنَّ الآخرين يعنون به ويولونه أهمية فائقة، ومن هنا جاء فرحه وسروره بالقتال وبالسيف يقول :

    وَأَفرحُ بالـسـيـفِ تَحتَ الـغُـبـار

    إذا ما ضَرَبتُ بِهِ أَلفَ ضَـربَـه



    ويقول :

    أَحِنُّ إلى ضَرْبِ السُّيوفِ القَـوَاضِبِ

    وأَصْبُو إلى طَعنِ الــرماحِ اللَّـــواعبِ

    وأَشتَاقُ كاسَاتِ الـمَـنُـونِ إذا صَفتْ

    وَدَارتْ على رأسي سِهَــامُ المَصائـبِ

    وَيُطربُني والـخَـيـلُ تَـعْـثُـرُ بالـقَـنَـا

    حُدَاةُ المنايا وارتعاجُ المَـــــــواكبِ

    وَضــربٌ وطعـنٌ تَحتَ ظِـل عَجَاجـةٍ

    كَجُنحِ الدُّجى مِنْ وَقْعِ أَيدي السلاهبِ

    ولم تقتصر سعادته على الفرح بالسيف والحرب، بل كان يجد سعادته حين يتمكن من قتل خصومه . . يقول :

    شَفى الـنـفـسَ مِني أَو دَنَا مِنْ شِفائِها

    تَـرَدِّيهـمُ مـن حَالِـقٍ مُـتَـصـــــوبِ

    تـَصــيحُ الــرُّدَيْنياتُ في حَجَبـاتِهم

    صياحَ العَوالي في الثِّقافِ الـمُـثـقَّبِ

    كَتـائِبُ تُــزْجى فَـوقَ كُـلِّ كَـتـيـبَـةٍ

    لــِواءٌ كَظِـلِّ الطائــرِ الـمُـتـــتقلِّـبِ



    ومن الجدير بالذكر انَّ الشاعر يجد نفسه في فروسيته، وانَّ نسبته للسيف هي التي تحدد قيمته، يقول :

    وأَنَـا الأسـودُ والـعـبـدُ الـذي

    يَقصِدُ الـخَـيـلَ إذا النَّقعُ ارتفعْ

    نِسْبَتـي سَيفي وَرُمحي وهما

    يُـؤْنِساني كُلَما اشـتـــدَّ الفَـزَعْ





    ( 2 )

    إنَّ في شخصية عنترة شيئاً يفارق الآخرين، لا يرضى بما رضي به الآخرون لأنفسهم، وكان يدرك في الحياة وجوده، فكان يرى الإنسان من منظار آخر، لا يحدد قيمته لون، وإنما تحدده قيم اجتماعية، فتوة وفروسية، وقد ولَّد هذا في نفسه شعوراً قوياً فيما تكتنفه نفسه، وفيما يعيش فيه، فضلاً عن مجتمعه الذي يفرض عليه نمطاً من الحياة وضروبا من المذلة والهوان . ثم كان إعجابه بابنة عمه، وهي من حرائر العرب، فاتسعت الهوة بين ما هو عليه، وبين طموحه الذي يدفعه إلى أنْ يقترن بهذه الفتاة التي تأبى طباع أسرتها وتقاليدهم أن تحقق له ما يصبو إليه » فمشكلة عنترة ولدت معه، إنها في دمه ولونه ملتصقة به، ملازمة لواقعه، فلو اتهمه الناس بالجبن لاستطاع أن يزيل تلك التهمة بالبطولة، ولو كان يعاب بالفقر لدأب في سبيل الغنى، إلا أنه كان يعاب لولادته من أَمَةٍ وللون وجهه، وهذان أمران لا قبل له بتغييرهما .

    وكان يؤرق وجدان عنترة بن شداد أنه ليس محسوباً على قبيلته، وكان يعاني من شطرين، شطر :كونه ولد لواحدٍ من أحرار عبس، ولم يعترف به إلا بعد أن اثبت بطولة وفروسية، وبعد تردد كبير، والشطر الثاني: كونه ولد لأمَةٍ حبشية، ولذا كان بعيداً عن افتخاره بأسرته أو قبيلته، على غرار ما كان يفعل شعراء القبائل الآخرين، فعمرو بن كلثوم مثلا كانت معلقته كلها تعبيراً عن وجدان الجماعة، تباهياً بمآثرها ومفاخرها واعتزازاً ببطولاتها وأمجادها، لأن عمرو بن كلثوم كان ملتحماً بهذه الجماعة، وامتداداً لها اذ يتحقق وجوده بوجودها، أما عنترة فلم يكن ولوعاً بهذا، وحتى في اللحظات التي يعمد فيها إلى الفخر بقبيلته تبرز أمامه مشكلة لونه الأسود قوية واضحة، فيتحول فخره إلى إشارة عابرة باهتة يحاول تغطيتها بمصيره القدري الغريب .

    إني امْرؤ من خَيْرِ عَبْسٍ مَنْصِباً

    شَطْري وأَحمِي سَائري بالمُنصلِ



    وبذلك يتحول السيف إلى نسب يغطي نقص شطره الآخر، وقد تركت هذه العقدة لديه، أي عقدة الشعور بالنقص باللون، أنماطاً من المواقف، وأنماطاً من التعبير عنها، فهو من ناحية يريد أن يسد هذا النقص والعجز بالتفوق على أحرار قبيلته، ويتم ذلك من خلال محورين : أولهما: أنه يعمد غالبا إلى إظهار قبيلته في حالة الهزيمة والانكسار فهم على الرغم من كونهم جماعة، وهو الفرد، و أنهم أحرار، وهو العبد، فهم يخسرون المعارك ويهربون، وهو في هذه الحالة يسد مسدهم، ويجبر عثرتهم، ويحقق النصر لهم، يقول:

    إنْ يُلحقُوا أكْرُرْ وإنْ يُستلحَمُوا

    أشدُدْ وإنْ يُلفَوا بضَــنكٍ أَنـزلِ

    حيـنَ النـزولِ يكونُ غَاية مِثْلنا

    وَيَفِــرُّ كُـلُّ مُضلّلٍ مُستـوهِلِ



    وليس صحيحا ان الشاعر في هذا » يحقد على بني قومه بقدر ما كان يحقد على أعدائه لأنَّ احتقارهم له هو اصل بلائه وفشله وإنما كان الشاعر يعبر عن مقارنة بين الجماعة المنهزمة متمثلة في القبيلة، والبطل الفرد متمثلاً في شخصية فارس هو عنترة، وهذه المقارنة تشبع جانباً مهماً من نفسية الشاعر البطل، وتشعر الآخرين بخذلانهم على كثرتهم وبعزتهم بفردية بطولته . إنَّ عنترة كان يدرك تماماً بوصفه إنسانا جاهلياً أنَّ وجوده الحقيقي يقع في إطار قبيلته، لكنه وجود مشوب بغصة بعدي: أمه الحبشية، ولونه الأسود، ومن ثم فليس الشاعر حاقداً على قبيلته حقده على أعدائه . ثانيهما : وهو لا يبتعد كثيراً عن الأول، وهو يتركز في عقد ة الشعور بالنقص التي دفعت الشاعر إلى إظهار بطولته على حساب هزيمة الجماعة، كي يثبت لهم أنَّ اللون لا يمثل معيار التفاضل بين الناس، وإنما ما يشتمل عليه جوهره وأفعاله، وبذلك يحاول عنترة انْ ينقل معيار التفاضل من العرق والدم واللون إلى معيار العمل، إنَّ البطولة تعوض نقصاً يعاني منه، وهذا ما أكده في شطره الآخر الذي يحميه بسيفه وسنانه، ويتبدى من ناحية أخرى في شعر عنترة ما يؤكد إشباع الشعور بعقدة النقص باللون التي يعاني منها عنترة، ويبدو أنها لا تنجلي هذه الا وقت الشدة في وقت تحتاج إليه القبيلة كل الحاجة، إذ يرى أنَّ القبيلة تلتحم به، فارساً لها وابناً من أبنائها، ونراه يلفى الخير من أعمامه وأخواله، فيصبح منهم في أوساطهم، وليس كائناً غريباً في جسد القبيلة، يقول :

    وإذا الـكـتـيبةُ أَحْـجَـمَـتْ وَتَلاحَظَتْ

    أُلـفـيـتُ خَيراً من مُعمٍّ مُـخـــولِ

    والـخَـيْــلُ تَـعـلـمُ والفَوَارسُ أَنـنـي

    فَـرّقْتُ جَمعَهُمُ بـطَـعـنةِ فَـيـصـلِ



    وهذا يعني أنَّ لفظتي معم ومخول » عناوين ورموز لما كان يتأجج ويضطرم في نفسه من حقد وهزال وسقم من جراء الواقع الذي أوثقه بشباكه . . . وان وراء عنجهيته وبطولته شعوراً حاداً بالمستحيل والنقص الذي لا يعوض ولا تردم هاويته .

    وأكثر ما يتجلى الشعور بعقدة النقص من خلال تمكنه بوصفه فرداً من التغلب على الآخرين الذين خافت القبيلة منهم من فرسان وأبطال، ومن خلال استنجاد قبيلته به ومناداته باسمه، ودعوته أن يقاتل ويتقدم،وقد أعرب عنترة عن هذا بأنه يشفي نفسه ويبرأ أسقامها، وهذا بوح واعتراف من الشاعر من أنَّ هناك قلقاً وألماً يحفران في نفسه، يقول :

    لمَّا رَأَيتُ القَـومَ أَقبـلَ جَمعُهـم

    يَتَذامَـرُونَ كَـرَرتُ غَيرَ مَذمَّــمِ

    يَدعُونَ عَنتـرَ والــرِّماحُ كأَنَّها

    أّشطانُ بِئرٍ في لَبـانِ الأدْهَـــمِ

    مَازلتُ أَرميهـم بثُغــرةِ نَحْــرِهِ

    ولَبانِهِ حتى تَسَــربلَ بالــــدَّمِ

    فازورَّ من وَقْــعِ القَنـا بلبانِهِ

    وِشَكَـا إلي بَعَبْـــرةٍ وَتَحَـمْحُمِ

    لَو كَان يَدري مَا المُحاوَرَةُ اشتَكَى

    وَلَكَانَ لَـو عَلِمَ الكَلامَ مُكَلِّمِي

    وَلَقَد شَفَـى نَفْسي وأَبـرأ سُقمَها

    قِيلُ الفَوارِسِ وَيْكَ عَنتَرَ أَقدِمِ



    إذن فعنترة بن شداد يشعر » بالشفاء والبرء من السقم عندما يسمع هتاف الجند يستنجدون به، وهذا الهتاف لا يعلن تساويه بين قومه بل تفوقه عليهم، وهو أجمل نداء تسمعه أذنه إذ يخيل إليه أنه رمى الصخرة التي ما برحت تثقل كاهليه .







    ( 3 )



    إن عنترة بن شداد يعبر عن حالة الرفض والتمرد بصيغ مختلفة وأشكال متنوعة وقد يدل الاستفهام الاستنكاري الذي بدأ به معلقته على واحدة من أشكال الرفض والتمرد فقوله :

    هَلْ غادرَ الشعراءُ من مُتَرَدَّمِ

    أم هلْ عرفتَ الدارَ بَعْدَ توهُمِِ



    يؤكد معرفته لسؤال يطرحه أمام المتلقي، ويؤكد في الوقت نفسه أنَّ الشعراء السابقين لم يتركوا شيئا لم يطرقوه، ولعلنا ندرك أنَّ الإجابة عن سؤال يتضمن السلب أو الإيجاب وهو يشتمل على دلالات مختلفة .

    إن عنترة بن شداد كأنه يضيق ذرعاً من تقيد الشعراء بهذا التقليد الذي درجوا عليه، وكأنَّ تكرار هذا الاستفهام في صدر البيت وعجزه ما يؤكد ذلك لأنه ـ على ما يبدو ـ أصبح عقبة أمام الشاعر، ويهيمن على البيت الشعري التساؤل المقترن بالوهم .

    إن الوقفة الطللية عند عنترة بن شداد كثرت فيها التساؤلات المحيرة، مما يعني أنه يحس بقدر من القلق الوجودي، هو نتيجة لعوامل عديدة، منها اندثار بقايا الدار والوحدة الموحشة واختفاء الحبيبة، وهذا له ما يبرره عند الشاعر الجاهلي بعامة، فعلى الرغم من أنَّ الطلل يعبر عن موقف الشاعر من الزمن وأثره في الطبيعة والإنسان لأنه يقود الحياة إلى التلاشي والموت فإنَّ الحياة تتبدى من التلاشي والموت من خلال استرجاع الماضي، وذلك كأنه يعيد الزمن بالحكاية ويعيد الحياة والحب يقول عنترة :

    دار لآنسةٍ غَضَيضٍ طَرْفُها

    طَوعِ العِناقِ لَذيذةِ المُتَبَسمِ



    ومن الجدير بالذكر أنَّ الشاعر يكثر من النكرات ،» دار، آنسة، غضيض « كما أنه عرض لجملة من الصفات تنحدر من حقل دلالي واحد هو الجمال الحسي :

    الطرف = غضيض » حسي بصري «

    العناق = طيعة » حسي لمسي «

    التبسم = لذيذ » حسي ذوقي «

    إنَّ أبرز ملامح التمرد عند عنترة بن شداد هي محاولته الإعلاء بذاته إزاء الآخرين إذ على الرغم من سواد لونه ووضاعة أصله فهو أعلى في القيمة في فروسيته، فالفروسية كما يذهب إلى ذلك أدونيس، » صيحة التمرد ضد العالم، وغايتها إثبات الوجود والعيش بامتلاء . حس الفروسية هو، من هذه الناحية، حس الكفاح ضد الدهر .إن الفروسية لدى عنترة تحقق له الطريق للامتلاء بالحرية، إنَّ عنترة يحاول أن ينفلت من الجماعة وقيمها، ويحقق هذا أو قسما منه بالفروسية، لذلك كانت الحرب عالم الشاعر إذ يحقق من خلالها ذاته، فالشاعر » يتحرك ويحيا بالحرب وفيما وراءها ، إنَّ الحرب تساعد الشاعر في إعادة صياغة العالم من جديد، لأن العالم لا يستقل في وجوده، وإنما » يصبح العالم انعكاساً للذات في مثالية شخصه، ويصبح العالم حركة اقتحام وفروسية يستسلم العالم في البطولة كما يستسلم في الحلم فيتحد بالبطل وتزول إذ ذاك الحدود بينه وبين الإنسان ـ بين المظهر والجوهر.

    إنَّ عنترة بن شداد لم يخرج عن إطار القبيلة ولم يتمرد على كيانها، فقد بقي يناضل من أجل الحصول على حريته وكان عنترة يعلم أنَّ الحرية التي يطلبها لا تمنح، وإنما تؤخذ بالكفاح واثبات الذات وأفعالها، إنَّ فروسية عنترة ليست » إلا نوعاً من الثأر لنفسه المحدودة في نهاية المطاف، من هذه الطبيعة حوله من فضائها الهائل وفراغها المهيب، بل إنَّ ذلك هو ما يدفعه إلى التهور والاستهانة بشخصه والتطوح في هوة المغامرة لتصير حياته على مثال الصحراء مطلقة ونسبية، بسيطة ومعقدة، ثابتة وتنهار كالرمل ، وعلى الرغم من اعتراف أبيه بنسبه إليه، فهو في نظر أعدائه وقومه عبداً، وأكثر من هذا أنَّ ابنة عمه التي يحبها تضعه في الإطار ذاته من حيث كونه اسود اللون عبداً . ولذلك لاحظنا أنَّ ما يثير عنترة أنْ تشيح عنه بوجهها، وكأنها تنكأ جرحاً دفيناً في نفسه، ولـذلك كـان

    إرخاء عبلة قناعها على وجهها يمثل مثيراً دفع عنترة إلى الإسهاب في التعبير عن معاناته بطرف خفي، مضفياً على نفسه تلك الخصائص والخصال الحميدة، ويتحسس أنَّ ظلماً كبيراً يقع عليه بسبب هذا الجفاء، يقول عنترة :

    إنْ تـُغـدفي دوني القِناعَ فإنني

    طَبٌ بأخــذِ الفـارسِ الـمـسـتلئـمِ

    أثني عليَّ بما عَـلِـمـتِ فإننـــي

    سَمحٌ مُخالَـقَـتـي إذا لـم أُظـلــــمِ

    وإذا ظلمتُ فإنَّ ظُلمـيَ باسِــلٌ

    مـُـرٌ مَــذاقـتُـهُ كـطـعمِ الـعَـلـقَـمِ

    ولقدْ شربتُ من المُدامةِ بعدما

    رَكَدَ الهواجرُ بالـمـشـوفِ الـمُـعْـلَمِ

    بـزُجاجةٍ صفــراءَ ذاتِ أســرةٍ

    قُـرنتْ بأزهرَ في الـشَّـمـالِ مُـفَـدَّمِ

    فإذا شـَـرِبتُ فإنني مُستــهلِكٌ

    مالي، وعِـرضــي وافـرٌ لم يـُكـلَّـمِ

    وإذا صحوتُ فما أُقصِّرُ عن نَـدى

    وَكَـما علِـمتِ شَمَائلي وتَكــرُّمــي



    ولم يقتصر عنترة على ذلك إذ راح يفاخر ببطولته وفروسيته واصفاً إياهما بقوله :

    وَحَليلِ غَانيةٍ تَــركتُ مُجــدَّلاً

    تَمْكُـو فَريـصـتـُهُ كَشِـدقِ الأَعْلَــمِ

    سبقتْ يداي لهُ بِعَـاجلِ طَـعنَـةٍ

    وَرشـاشِ نَافِـــذةٍ كَلـونِ الـعَـنْــدَمِ

    هَلاَّ سَألتِ الـخَـيـلَ يا ابنةَ مَالِكٍ

    إنْ كنتِ جَاهـلــةً بما لـم تَـعـلَـمي

    إذْ لا أزالُ على رحـالةِ ســَـابحٍ

    نَهْـدٍ تعــاوره الـكُـمــاةُ مُـكَـلَّـــمِ

    طَوراً يُجــرَّدُ لـلـطِـعانِ وتـارةً

    يأوي إلى حَصْـدِ القِسيّ عَــرمرمِ

    يُخبركِ من شَهِـدَ الوقيعةَ أنني

    أغشى الـوَغَى وأَعفُّ عندَ المَغْنَمِ



    ومن الطريف في هذا السياق أن نشير إلى أنَّ عنترة بن شداد يضفي صفات البطولة والشجاعة على خصومه الذين يتمكن من قتلهم والانتصار عليهم، فهذا فارس مدجج بسلاحه، يكره الأبطال ملاقاته لشدة بأسه وقوته ،إن الفارس لا يفخر » فخره الحق الا بانتصاره على فارس آخر في مستواه بسالة ومروءة، وكان يشعر وهو في ذروة إيمانه بقوته أنها محدودة إنَّ عنترة يدل على ان انتصاره عليه إنما يدل على أنه أكثر منه بطولة وفروسية، يقول :

    ومُدَجَّجٍ كَرِهَ الكُماةُ نـزالَه

    لا مُـمـعـــنٍ هــرباً ولا مـسـتـسلـمِ

    جادتْ له كفِّي بعاجلِ طَعنــةٍ

    بـمُـثـقفٍ صَـدقِ الـكُـعـوبِ مُقــوَّمِ

    فَشَكَكتُ بالرُّمحِ الأصمِّ ثِيابَهُ

    لَيسَ الـكَـريمُ على القَنَا بـمُـحـرَّمِ

    فتركتُهُ جَزَرَ السباعِ يَنُشنَـهُ

    يَقضُمـنَ حُسـنَ بنانِه والـمـِعـصَـمِ

    ومِشكَّ سَابِغةٍ هَتكتُ فُروجَهَــا

    بالسيفِ عن حامي الـحـقـيقةِ مُعلِمِ

    رَبِذٍ يداهُ بالقِداح إذا شَتَا

    هَتَّاكِ غاياتِ الـتِّـجـــارِ مُـلَــــوَّمِ

    لَمَّا رآني قد نـزلتُ أريــدُهُ

    أبـدى نواجـــــذَهُ لغيــرِ تـبـسُّـمِ

    عهدي بهِ مَدَّ النهارِ كأنما

    خُضِبَ البنـانُ ورأسُـهُ بالعظلمِ

    فطعنتُهُ بالرمحِ ثم علوتـُـهُ

    بمُهنَّدٍ صافـي الحديدةِ مخــذم

    بطلٍ كأنَّ ثيابـَهُ في ســرحةٍ

    يُحذى نِعالَ السبتِ ليسَ بتـوأمِ

    ونجد في هذه الأبيات صراعاً بين بطلين، ويعمد عنترة بن شداد إلى وصف خصمه من ناحيتين، من الناحية الخارجية من حيث الهيئة واللباس، فهو مدجج بالسلاح ومن الناحية الداخلية يصفه بأنه غير خائف من القتال، فليس فيه وجل أو تردد، بل أكثر من هذا أنَّ الأبطال تخاف منه، وهذان البعدان الداخلي والخارجي حولا خصم الشاعر إلى أسطورة عظمى، وقد قصد عنترة إلى المبالغة في وصف خصمه، لأن انتصاره عليه يعني أنه أكثر منه بطولة .

    وحين يعرض عنترة لكيفية انتصاره على خصمه يؤكد ذلك من خلال ضمير المتكلم » جادت له كفي، فشككت بالرمح، فتركته جزر السباع، هتكت فروجها قد نـزلت، أريده، عهدي به، فطعنته بالرمح، ثم علوته « إنَّ هذا يعني أنَّ الشاعر يؤكد على الجانب الفردي للبطولة، ومن ثم تتجلى خصائص ملحمية لأن البطل الملحمي
    » بطل فردي، بمعنى أنه يعكس موقف ذات بعينها، وعن هذه الطريق يعبر عن الجماعة وموقفها ، كما أنَّ عنترة بن شداد يؤكد من ناحية أخرى على قدرته على حماية القبيلة بأسرها، إضافة إلى أن يكون جديراً بابنة عمه عبلة التي يؤكد لها، ليس على لسانه، وإنما على لسان من شهد الوقيعة، أنه يقاتل دون خوف، وتعف نفسه عند توزيع المغانم:

    يُخبركِ من شَهَـدَ الوقيعةَ أنني

    أغشى الـوَغَى وأعفُّ عندَ المغنمِ

    ومن الملاحظ أنَّ عنترة بن شداد يضع قبيلته دائما في ناحية، ويضع نفسه في ناحية أخرى، فهو يحس أنه مختلف عنهم لوناً وقيمة، كما انه متفرد في بطولته، وكان يعي عنترة بن شداد عقدته التي أشرنا إليها، والتي عبر عنها، بقوله :

    إني امرؤٌ من خيرِ عَبسٍ مَنصِباً

    شطري واحمي سائري بالمُنصل

    وإذا كان المقاتلون في المعركة يشجع بعضهم بعضا فإن عنترة لا يخشى ولا يبالي حين يكر، كما أنّ الجماعة تستنجد به، وتناديه ليذب عنها في القتال، ويدفع الشر في الكر ويلح عنترة على ذكر اسمه في قصائده، إنَّ كل شيء يتغير مع البطولة إذ » يصبح الوجود انعكاساً للذات في مثالية شخصه، ويصبح العالم حركة اقتحام وفروسية يستسلم العالم في البطولة كما يستسلم في الحلم فيتحد بالبطل وتزول إذ ذاك الحدود بينه وبين الإنسان ـ بين المظهر والجوهر يقول :

    لمَّا رَأَيتُ القَـومَ أَقبـلَ جَمعُهـم

    يَتَذامَـرُونَ كَـرَرتُ غَيرَ مَذمَّــمِ

    يَدعُونَ عَنتـرَ والــرِّماحُ كأَنها

    أّشطانُ بئرٍ في لَبـانِ الأدْهَـــمِ

    مَازلتُ أَرميهـم بثُغــرةِ نَحْــرِهِ

    ولَبانِهِ حتى تَسَــربلَ بالــــدَّمِ

    فازورَّ من وَقْــعِ القَنـا بلبانِهِ

    وشَكَـا إلي بَعَبْـــرةٍ وَتَحَـمْحُمِ

    لَو كَان يَدري مَا المُحاوَرَةُ اشتَكَى

    وَلَكَانَ لَـو عَلِمَ الكَلامَ مُكَلِّمِي

    وَلَقَد شَفَـى نَفْسي وأَبـرأ سُقمَها

    قِيلُ الفَوارِسِ وَيْكَ عَنتَرَ أَقدِمِ

    إنَّ الشاعر في هذه الأبيات قد ألح على ذكر اسمه » يدعون عنترة، ويك عنترة « مما له دلالة نفسية تعبر عن عقدة الشعور بالنقص، وتتجلى ملامح هذه العقدة اكثر في قوله : » ولقد شفى نفسي وأذهب سقمها «لأنَّ لفظي » شفى «و »أذهب «وفي رواية أخرى »أبرأ « لها دلالتان مهمتان »على الأزمة التي كان يعانيها الشاعر فيما تختصم نفسه الأبية مع واقعه الذليل، لقد كان يعاني من احتقار الناس له، شعوراً بالذل، شبيهاً بالمرض لذلك نراه يشعر بالشفاء والبرء من السقم عندما يسمع هتاف الجند يستنجدون به، وهذا الهتاف لا يعلن تساويه بين قومـه بل تفوقه عليهم، وهو اجمل نـداء تسمعه أذنه .



    ( 4 )

    ويعبر عمرو بن معدي كرب عن بطولته الفردية في إطار قبيلته، ويكثر من استخدام ضمير المتكلم المفرد، ولقد فتن عمرو بن معدي كرب بعدة الحرب، وهي عدة الفارس، وقد ذكرها في أكثر من قصيدة، لأنها علامة الفروسية على ما يبدو، فعدته في القتال : درع، ورمح، وسيف، وقوس، وسهم، وفرس، يقول :



    أَعـددتُ للحـربِ فَضفَاضَةً

    دِلاصاً تَثَنَّى على الرّاهِشِ

    وأَجرَدَ مُطَّـرداً كالرشاءِ

    وَسيـفَ سَلامـةَ ذي فائِـشِ

    وَذاتَ عِــدادٍ لَهَا أَزْمَلٌ

    بـَرَتْها رُمـاةُ بني وابِشِ

    وَكلَّ نَحيضٍ فَتيقِ الغِرارِ

    عَـزُوفٍ على ظُفُـرِ الرائِشِ

    وأَجْرَدَ سَاطٍ كَشَاةِ الإِرا

    نِ رِيـعَ فَعَنَّ على الناجِشِ

    وآوي إلى فَرْعِ جُرثُـومَةٍ

    وَعِـزٍ يَفُـوتُ يَـدَ الناهِشِ

    تَمَتَّعتُ ذاك وكُنـتُ امرأً

    أَصُـدُّ عَن الخُلُقِ الفَـاحِشِ

    ويبدو أنَّ البطولة الفردية يكون فيها الشاعر البطل في ناحية، وتقابله الجماعة ـ قبيلته ـ وتتبدى هذه الصورة واضحة في قبيلته التي لم تقف معه مقاتلة في إحدى المعارك فتوقف الشاعر عن مدحها أو الفخر بها، ولكنه أخذ يتحدث عن بطولته وفروسيته ومخاوفه، يقول :


    وَمُـردٍ على جُـردٍ شَهِـدتُ طِرادَهَا

    قُبيلَ طُلــوعِ الشمسِ أو حيـن ذَرَّتِ

    صَبَحْتـُهُمْ بَيضاءَ يَبـرُقُ بَيــضُها

    إذا نَظَـرتْ فيها العُيُونُ ازمهـرَّتِ

    ولمَّا رأيتُ الخَيلَ رَهْـواً كأنها

    جَــــداولُ زَرعٍ أُرسلتْ فاسبـَطَـرَّتِ

    وَجَـاشَتِ إلى النفسُ أَوّلَ وَهْـلَةٍ

    وَردَّتْ علــى مَكــروهِها فاستقـرّتِ

    عَلامَ تَقـولُ الرُّمحُ يُثقِلُ عاتِقي

    إذا أنا لم أطعن إذا الخيلُ ولَّتِ

    عَقَـرتُ جَوَادَ ابنَيْ دُريدٍ كليهما

    وما أَخذتنـي في الخُتُـونةِ عِـزَّتي

    لَحَا اللّهُ جَـرْماً كلما ذَرَّ شَارِقٌ

    وجـُـوهَ كِلابٍ هارَشَـتْ فـازبـأرَّتِ

    ظَلِلتُ كأنــي للــرِّماحِ دَرِيـئةٌ

    أُقاتـلُ عن أبنـاءِ جَــرْمٍ وَفَــرَّتِ

    فَلمْ تُغنِ جَرْمٌ نَهْدَها إذ تلاقتا

    ولكنَّ جَــرْماً في اللقاءِ ابــذَعَرَّتِ

    فلـو أنَّ قَومي أنطَقَتنِي رِماحُهُمْ

    نَطَـقتُ ولكــنَّ الــرمــاحَ أجـرَّتِ

    ونتوقف عند قصيدته المعروفة :

    1- لَيْسَ الجَمَالُ بِمِئْــزَرٍ فَاعْلَمْ وإِنْ رُدِّيتَ بُـرْدا

    2- إِنَّ الجَمَـالَ مَعَـادِن ومنـاقب أورثـن مجــدا

    3- أَعْـدَدتُ للحَــدَثَانِ سَـابِغَةً وَعَــدَّاءً عَلَنْــدَى

    4- نَهْـداً وَذا شطبٍ يَقُـدُّ البيْضَ والأَبـدانَ قَـدا

    5- وَعَلِــمتُ أَني يَـومَ ذَاكَ مُنازِلٌ كَعَبـاً وَنَهْـدا

    6- قَـومٌ إِذا لَبِسُـوا الحَديدَ تَنَمَّروا حَلَقاً وَقِدا

    7 - كُلُّ امريء يَجـْـري إلى يـــومِ الهيــاجِ بما اسْـــتَعَـدَّا

    8- لَمَّـا رَأَيـتُ نِسَاءَنا يَمحَـصنَ بالمَعــزاءِ شَدَّا

    9- وَبَـدَتْ لَمِيسُ كَـأَنَّها بَــدْرُ السَّماءِ إِذا تَبَدَّى

    10- وَبَـدَتْ مَحَاسِنُها التي تَخْفَى وَكانَ الأَمرُ جِـدَّا

    11- نَازَلتُ كَبشَهُمُ وَلَمْ أَرَ مـن نـزالِ الكَبشِ بُـدَّا

    12- هُم يَنـذُرُونَ دَمي وأَنْـذُرُ إِنْ لَقيتُ بأَنْ أَشُـدَّا

    13- كَـم من أَخٍ لي صَالـِحٍ بَـوَّأتُـهُ بِيَـدَيَّ لَحْــدا

    14- ما إِنْ جَـزِعتُ ولا هَلِعتُ ولا يَـرُدُّ بكايَ زنـدا

    15- أَلبَستُهُ أَثـوابَهُ وخُلِـقتُ يـومَ خُلِـقتُ جَلْــدَا

    16- أُغني غنَـاءَ الذاهبينَ أعـدُّ للأَعـداءِ عَــدَّا

    17- ذَهَبَ الذين أُحبُّهُم وبَقيـتُ مِثلَ السّيفِ فَــرْدا

    إذ يؤكد في هذه القصيدة أنَّ قيمة الإنسان لا تتحدد بشكله الخارجي، فالجمال ليس رداء يرتديه، أو مئزراً يغطي به جسده، وإنما الجمال قيمٌ قارةٌ في الإنسان، وهو بهذا يماثل عنترة الذي جعل قيمة الإنسان بما يشتمل عليه وجدانه وعالمه الداخلي، غير أنَّ مفارقة واضحة بين الشاعرين تكمن في أنَّ عنترة كان يعاني من عقدة النقص بسبب اللون التي دفعته إلى الإشارة إليها مرات عديدة، ولم تكن تلك قضية تؤرق وجدان عمرو بن معدي كرب، على الرغم من تماثلهما في تحديد قيمة الإنسان بالنتيجة .

    وحين نتوقف عند قصيدة عمرو بن معدي كرب نلاحظ أنها لا تبدأ بالوقوف على الأطلال، تلك السمة التي حاول بعض الباحثين أن يجعلها سنة، لا بد للشاعر من طرقها والبدء بها، كما أنه ليس هناك غزل بحبيبة، أو وصف لناقة . وليس في إمكاننا في الحقيقة تصنيف هذه القصيدة في أحد الأغراض الشعرية، لأنَّ تصنيف القصائد وفق الأغراض الشعرية جاء متأخراً، ففي هذه القصيدة موقف من الإنسان وتحديد قيمته وماهية جماله، وفي القصيدة أيضاً قيم وأخلاق فريدة يتحلى بها الفارس العربي من حيث جرأته وقوته وإباؤه، واستعداده للصراع والقتال من أجل هذه القيم، ومن أجل القبيلة أيضاً، وفي القصيدة كذلك معركة دارت بين طرفين يخسر فيها الطرفان المتحاربان، ينتصر فيها عمرو، ولكنه يخسر أخاً له، ويدفنه بشجاعة الفارس، ومن ثم يؤكد توحده وتفرده تماماً كالسيف .

    ومن الجدير بالإشارة أنَّ عمرو بن معدي كرب قد عبر بقصيدته هذه بضمير المفرد، فالقصيدة نفثة وجدانية لشاعر فارس فرد، وحين يتكلم عن الآخر، عدواً، أو أخاً، أو فتاة، إنما يتحدث عنه من خلال هذه الأنا .

    ويتجلى في القصيدة نفس إيقاعي حزين في موجتين، موجة قصيرة تتمثل في الشطر، وموجة أطول في العجز، ولقد أسهم مجزوء الكامل في تمكين هاتين الموجتين من التتابع للتعبير عن انفعال الشاعر الغاضب إزاء الأحداث في الخارج . إنَّ هاتين الموجتين مستمدتان من حالتين تفاعلتا : إحداهما : خارجية تحاكي فيها القصيدة صخب الحرب وجلبتها، وثانيتهما : الحالة النفسية للشاعر التي تمور بالحزن والبكاء، وكأنَّ عجز كل بيت شعري إنما هو امتداد لنفث آلام الشاعر وانفعالاته، أو هو الصرخة الممتدة التي يصرخها الشاعر .

    ويمكن تأمل هذه القصيدة من خلال بعدين : أحدهما : يتصل بمفهوم الجمال، وثانيهما :يتصل بالانتصار المقترن بالفاجعة، فالشاعر يمايز بين نمطين من الجمال، الجمال المتوهم

    الذي يتكئ على شكلية فارغة قوامها جمال المئزر والرداء، والجمال الحقيقي الذي يتمثل في جمال المناقب والقيم والأخلاق، غير أنَّ هذا الأخير لا ينفصل عن مظاهر خارجية يحددها عمرو بن معدي كرب بمظاهر الفروسية أو بعدة الفارس من رمح وسيف ودرع كما أنَّ الجمال يتصل اتصالاً مباشراً بجمال الداخل الذي يتحول فيه الفارس إلى مدافع حقيقي عن مبادئ القبيلة وحماية كيانها .

    ولا تخلو القصيدة من صراع دائم تتجلى فيه ملامح الهزيمة مرة والانتصار مرة غير أنَّ كلا البعدين لا يخلوان من انكسار وانسحاق، إنَّ الشاعر على الرغم من أنه يعبر عن نشوة الانتصار ولكنه يعبر في الوقت نفسه عن الهزيمة التي تتدفق من أعماق الانتصار هزيمة الإنسان أمام الموت، لأنَّ فاجعة الموت تحيل كل انتصار إلى هزيمة، وكأنها توحي بتحول الشاعر من التوحد والاندماج مع الآخر، الصاحب والخليل، إلى التفرد والغربة .

    وجمال المئزر جمال يتكئ على شكلية فارغة، وهو جمال متوهم، ويسعى عمرو بن معدي كرب إلى تجاوزه وإرساء الجمال الحقيقي الذي يتحدد في الوجدان، في المناقب القارة في أعماق الإنسان، ومن ثم ينتقل الشاعر من جمال التغيرـ الشكل ـ إلى جمال الثبات ـ المناقب ـ ومن الجدير بالذكر أنَّ التعبير عن الجمالين قد تم بأسلوبين :أحدهما : أسلوب النفي، وثانيهما أسلوب التوكيد والإثبات، ففي الحديث عن جمال الشكل والمئزر يعتمد الشاعر أداة النفي ليس، وهي تنفي الجملة المثبتة المكونة من المبتدأ والخبر على النحو الآتي :

    أداة النفي + المـبـتـدأ + الـخـبـر

    ليـــس + الجمــال + بـمـئـزر

    وتفيد الباء، حرف الجر الزائد، توكيد نفي الوصف عن المبتدأ .

    اما الأسلوب الثاني فهو أسلوب التوكيد والإثبات مكوناً من أداة التوكيد» إنَّ « وهي تؤكد الجملة المثبتة المكونة من المبتدأ والخبر، على النحو التالي :

    إنَّ + المبتدأ + الـخـبـر + حرف العطف +المعطوف + الصفة جملة فعلية.

    إنَّ + الجمال + معـادن + ومناقب + أورثن مجدا .

    إنَّ المقابلة بين النفي والإثبات تدل على تعارض الرؤيتين، الرؤية التي تعلي من شأن العرضي، والرؤية التي تعلي من شأن الجوهر .

    أما المقطع الثاني، وهو الاستعداد، فيتجلى فيه استعداد الشاعر من الناحيتين المادية والمعنوية، أما المادية فتبدو في الدرع والحصان والسيف، وهذه عدة الفارس ومن الطريف الإشارة إلى أنَّ الشاعر ابتدأ بذكر الدرع وهو اللباس الذي يرتديه في الحرب وكأنه يقيم تعارضاً مع الجمال العرضي الذي يُعنى بالإزار، ومن ثم فإن جمال المناقب في شكله إنما هو جمال الدروع، لأنه ينطوي على قيم قارة .

    ويتبدى استعداد الشاعر بالفعل » أعددت « في حين يتبدى الاستعداد المعنوي بالفعل » علمت «، وبين الإعداد والعلم يتجلى استعداد الشاعر المادي والنفسي لما سيأتي، ومن الطريف أنَّ هذا المقطع من القصيدة يبدأ بالفعل » أعددت « :



    أَعْـدَدتُ للحَـدَثَانِ سَابِغَةً وَعَدَّاءً عَلَنْــدَى


    وينتهي بالفعل » استعد « :



    كُـلُّ امرئ يَجْـري إلي يومِ الهياجِ بما اسْـــتَعَدَّا



    ويمر الصراع بمرحلتين، مرحلة غزو الأعداء قبيلة الشاعر، ومرحلة منازلة الشاعر خصومه الذين استعد للقائهم، وفي المرحلة الأولى : يعرض الشاعر لمدى الرعب الذي دخل قلوب نساء القبيلة اللائى هربن، وكان من بينهن » لميس « الفتاة التي أفرد الشاعر الحديث عن محاسنها بيتين من الشعر . إنَّ فرار نساء القبيلة ليس بداية الصراع وإنما هو ذروة الصراع ولذلك كان لا بدَّ للشاعر من المنازلة، ولا بدَّ لبطل القبيلة وفارسها أنْ ينازل بطل القبيلة الغازية، كبش أمام كبش .

    ولم يعرض لنا الشاعر شيئاً عما حدث في المعركة، تماماً كما أنه لم يعرض ما الذي حصل لنساء القبيلة، ومن بينهن لميس، وإنما ترك ذلك لمخيلة المتلقي ليستكمل الصورة .ولكنه يشير إلى انتصاره في المعركة، وهزيمة بفاجعة الموت، إذ يشير إلى مصرع أخ له وتجلده وثباته بعد مصرعه، وفي أثناء دفنه . إنَّ الفروسية العربية تدرك ـ كما يقول أدونيس ـ » أن لها حدا هو الغياب أخيرا . فهي إذن تتردد بين حضور الوجود وحضور الغياب، تتضمن حس الفجيعة . لذلك ليس القتال عندها لعباً كيفياً، بل هو حاجة يفرضها قدر الحياة للتسلح ضد الموت، يدرك الفارس أنه سائر إلى الموت
    وان الحرب تعجل هذا المسير، غير أنه، في الوقت ذاته، موقن أنَّ الحرب لا تقدر مع
    أنها مليئة بالموت أن تغلق في وجهه أفق المستقبل وأبواب الحياة إنه يتحرك ويحيا بالحرب وفيما وراءها

    أما الخاتمة فهي تدل على غربة الشاعر وتفرده :

    ذَهَبَ الذين أُحبُّهُم وبَقيـتُ مِثلَ السّيفِ فَــرْدا





    ( 5 )



    ونلتقي بالبطولة الجماعية التي يعبر فيها الشاعر عن القبيلة، ويلتحم معها التحاماً حميماً، وأول ما يبده المتلقي أنَّ الشاعر في هذا النمط من التعبير يكسر التعبير عن»الأنا « الذي يشيع لدى شعراء البطولة الفردية، إلى التعبير عن » الجماعة « وتتحول القصيدة إلى نشيد جماعي يتحدث فيه الشاعر عن بطولة القبيلة والجماعة في قيمها وصراعها مع القبائل الأخرى، وتكون » أنا الشاعر ... متحدة عضويا مع نحن القبيلة، بل انها ذائبة، فوعي الشاعر غير منفصل عن وعي الجماعة ـ الكل يقول السموأل بن عادياء :

    إِذا المَرءُ لَمْ يدنسْ من اللؤمِ عِرضُهُ

    فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرتَديه جَمَيلُ

    وإنْ هو لم يَحملْ على النفسِ ضَيمَهَا

    فَلَيسَ إلى حُســنِ الثَّناءِ سَبيلُ

    تـُعّيرنا أَنَّا قَليلٌ عَــديدُنا

    فَقلتُ لها إِنَّ الـكِــرامَ قَليلُ

    وما قَلَّ من كَانتْ بَقَايَاهُ مِثلَنَا

    شَبَابٌ تَسَامى للعُلى وكُـهُــولُ

    ومَا ضَرَّنا أَنَّا قَليلٌ وجَارُنَا

    عَزيزٌ وجَارُ الأَكثـرينَ ذَليلُ

    لَنا جَبلٌ يَحتلُّه مَنْ نُجِيرُهُ

    مَنيعٌ يَردُّ الطَّرْفَ وهو كَليلُ

    رَسَا أَصلُهُ تَحتَ الثَّرى وَسَمَا به

    الى النجمِ فَرعٌ لا يُنالُ طَويلُ

    وإِنا لقومٌ لا نَرَى القَتْلَ سُـبـةً

    إذا ما رأتهُ عامرٌ وســلولُ

    يُقرّبُ حُبُّ الموتِ آجالَنَا لنا

    وتَكرهُهُ آجالُهُم فَتَطــولُ

    ومَا مَاتَ منا سَيدٌ حَتفَ انفِهِ

    ولا طلَّ منا حَيثُ كانَ قَتيـلُ

    تَسيلُ على حَدِ الظُباتِ نفوسُنا

    وليستْ على غَيرِ الظُ

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة مايو 10, 2024 2:03 am