لــــــغـــــــة الــــــضـــــا د

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
لــــــغـــــــة الــــــضـــــا د

منتدى الغة العربيه


    توثيـق الشعر الجاهلي

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 116
    تاريخ التسجيل : 09/01/2010

    توثيـق الشعر الجاهلي Empty توثيـق الشعر الجاهلي

    مُساهمة  Admin الثلاثاء يناير 12, 2010 2:10 pm

    توثيـق الشعر الجاهلي


    (1)

    لا ريب أنَّ الشعر الجاهلي يثير معضلة تتجلى واضحة في تفاوت أساليب المقطوعات الشعرية والقصائد الجاهلية، وتظهر أيضاً في ترتيب الأبيات الشعرية واختلاف الروايات في مفرداتها وتراكيبها وصياغاتها . وهذا من شأنه أن يثير الشك حول صحة الشعر، من حيث نسبته إلى صاحبه، أو إلى زمانه، أو إلى مكانه .

    ولم يكن الأدب العربي بدعة في هذا السياق، إنما هي ظاهرة عانت منها آداب الأمم الأخرى في مراحلها التي سبقت التدوين، ولذلك فإنَّ الأدب الإغريقي، وبخاصة في ملحمتيه الإلياذة والأوديسا قد تسـرب الشك إليه في تـوثيق النصوص ونسبتها إلى مؤلفيها [112] .

    وقد شاع استخدام مصطلح الانتحال ليدل على قضية الشك في الشعر الجاهلي ويؤثر بعضهم استخدام مصطلح النحل ويحدده بأنه » وضع قصيدة ما أو بيت أو أبيات وإسناد ذلك لغير قائله « [113]، ويذهب آخر إلى أنَّ » معنى انتحله وتنحله ادعاه لنفسه وهو لغيره ...ويقال نحل الشاعر قصيدة، إذا نسبت إليه، وهي لغيره « [114]، وقد ميز باحث آخر بين ثلاثة مصطلحات، وهي : النحل، والانتحال، والوضع، فالوضع لديه » هو أن ينظم الرجل الشعر ثم ينسبه إلى غيره لأسباب ودواع، والانتحال هو ادعـاء شـعر الغير... والنحل أن ينسب الرجل شـعر شـاعر إلى شاعر آخر«[115] .

    ويمكننا إيجاز مفهوم الانتحال بأنه نسبة الشعر لغير قائله، سواء أكان ذلك بنسبة شعـر رجل إلى آخـر، أم أن يدعي الرجل شعر غيره لنفسه، أم أن ينظم شعراً وينسبه لشخص شاعر أو غير شاعر، سواء أكان له وجود تاريخي أم ليس له وجود تاريخي .

    وقد التفت علماء العربية إلى هذه الظاهرة وأولوها عناية وبحثا، إذ يؤكد ابن سلام الجمحي ذلك حين يقول : » وفي الشعر مصنوع مفتعل كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربيته، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج«[116]، وإذا كان ابن سلام قد أجمل الحديث ـ هنا ـ عن الظاهرة بأسرها فإنَّ من علماء العربية من تحدث عن مفرداتها وجزئياتها، إذ يرد عن الأصمعي أنه قال : » إنَّ كثيراً من شعر امرئ القيس لصعاليك كانوا معه « [117].

    ولم يكن الأمر مقتصراً على علماء العربية القدامى فلقد أسهم المستشرقون بذلك وأدلى بعضهم بآراء خطيرة، وخالفهم أو تابعهم بعض الباحثين العرب المعاصرين . وسنتوقف في الصفحات التالية عند ابن سلام الجمحي بوصفه أبرز من تناول ظاهرة الانتحال عند القدامى، ثم نتناول الحديث عند المستشرقين، ونتوقف عند صموئيل مرجليوث بخاصة، لتبنيه تصورات خطيرة في قضية الانتحال، ونتوقف أخيراً عند طه حسين الذي أثار ضجة كبيرة في كتابيه الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي، في تناوله لفضية الانتحال في الشعر الجاهلي .

    يؤكد ابن سلام الجمحي وفرة الشعر الجاهلي ولكن ما وصل إلينا منه قليل، إذ يروي عن أبي عمرو بن العلاء قوله: » ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير «[118].

    ويرجع بعض ذلك ـ فيما يرى ابن سلام ـ إلى انشغال العرب بعد مجيء الإسلام بالجهاد، وقد هلك كثير من الناس مما أدى إلى ضياع كثير من الشعر يقول ابن سلام : » فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد، وغـزو فارس والـروم ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم كثير «[119].

    إنَّ الشعر الذي وصلنا من الجاهلية قليل وقد ضاع أكثره، ويؤكد ابن سلام أنَّ في هذا القليل مصنوع مفتعل كثير لا خير فيه، مما يدفع إلى ضرورة تنقيتة وعزل صحيحه عن زائفه، فهو يقول : » وفي الشعر مصنوع مفتعل كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربيته ولا أدب يستفاد، ولامعنى يستخرج، ولامثل يضرب ولامديح رائع، ولاهجاء مقذع ولا فخر معجب، ولانسيب مستطرف، وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء «[120] .

    وقد اختلف العلماء في الشعر صحيحه وزائفه، ويرى ابن سلام أن ما اتفق عليه العلماء لاجدال حوله ولانقاش فيه، أو على حد تعبيره » ليس لأحد أن يخرج منه « [121] .

    ويعي ابن سلام الجمحي أنَّ هناك أسباباً دفعت إلى نحل الشعر ووضعه، ويمثل العامل القبلي واحداً من الأسباب التي أدت إلى تزيد القبائل في نسبة الشعر إلى شعرائها في الجاهلية والإسلام، لأن العرب حين راجعت » رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والشعراء، فقالوا على ألسنة شعرائهم « [122] .

    ويختلط بالعامل القبلي أحياناً بعد سياسي، فقريش قد وضعت على حسان بن ثابت قصائد عديدة لم يقلها، لدرجة يصف ذلك ابن سلام بأنه » قد حمل عليه ما لم يحمل على أحد، لما تعاضهت واستتب، وضعوا عليه أشعاراً كثيرة لا تنقى « [123] .

    وإذا كان العامل القبلي ـ هنا ـ يختلط ببعد سياسي فانه يختلط أحياناً ببعد ديني، ففي حديث ابن سلام عن أبي طالب يصفه بأنه كان » شاعراً جيد الكلام، أبرع ما قال قصيدته التي مدح فيها النبي صلى الله عليه :

    وَأَبيَضَ يُستَسقى الغَمَامُ بِوَجهِهِ



    رَبيعُ اليَتَامى عِصمَةٌ للأَرامِلِ



    وقد زيد فيها وطولت ... وقد علمت أنْ قد زاد الناس بها، ولا أدري أين منتهاها، وقد سألني الأصمعي عنها فقلت :صحيحة جيدة فقال : أتدري أين منتهاها، قلت : لا « [124] .

    وقد أسهمت الرواية في وضع الشعر الجاهلي ونحله، فلقد عبث الرواة كثيرا في الشعر الجاهلي، ونسبوا إلى الشعراء ما ليس لهم، ويمكن تصنيف الرواة إلى فئتين :



    الفئة الأولى : رواة الأخبار والسير والقصص وأيام العرب :

    وهؤلاء يفتقرون إلى العلم بالشعر وخصائصه ومذاهبه، ففي حـديث ابن سلام عـن الشاعـر أبـي سفيان بن الحارث يثبت له شعــراً » كان يقوله في الجاهلية فسقط ولم يصل إلينا منه الا القليل، ولسنا نعد ما يروي ابن اسحق له ولا لغيره شعراً، ولأن لا يكون لهم شعر أحسن من أن يكون ذاك لهم « [125]، ومحمد بن اسحق هذا أحد رواة السيرة النبوية، وقد شنَّ عليه ابن سلام هجوماً عنيفاً لإفساده ما حمله من غث الشعر ومنحولة، وقد قال عنه ابن سلام » وكان ممن أفسد الشعر وهجَّنه وحمل كل غثاء منه محمد بن اسحق بن يسار ... وكان من علماء الناس بالسير.. فنقل الناس عنه الأشعار وكان يعتذر منها ويقول : لا علم لي بالشعر، اتينا به فأحمله، ولم يكن ذلك له عذراً فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعـراً قط وأشعـار النساء فضلاً عن الـرجال، ثم جاوز ذلك عاد وثمود« [126] .

    ويستدل ابن سلام الجمحي في الرد على محمد بن اسحق في شأن القصائد الشعرية الكثيرة التي وردت عن عاد وثمود، بالدليل النقلي، مستشهداً بآيات قرآنية كريمة تقرر وجهة نظره ويعجب عمن » حمل هذا الشعر ومن أداه منذ آلاف السنين، والله تبارك وتعـالى يقول »فَقُطِعَ دَابرُ القَومِ الذينَ ظَلَموا « [127]، أي لا بقية لهم، وقـال أيضاً »وَأَنَّـهُ أَهلَكَ عـاداً الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبقَى « [128]، وقال في عاد: » فَهَل تَـرَى لَهُم مِـن بَاقِيَة « [129]، وقال » وَقُرونَا بَينَ ذلكَ كَثيرَا « [130]، ويتوهم ابن سلام دليلاً تاريخياً ليؤكد أنَّ لغة عاد وثمود لم تكن اللغة العربية، وهذا حق، غير أنَّ الدليل الذي يستدل به أمر يجافي طبيعة نشأة اللغة وتطورها إذ يؤكد أنَّ » أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه إسماعيل ابن إبراهيم صلوات الله عليهما « [131]، ويتكئ ابن سلام من ناحية أخرى على مقولة لأبي عمرو بن العلاء تؤكد أنَّ عربية حمير ليست بعربيتنا، فكيف بقصائد عاد وثمود التي تماثل قصائد شعراء العرب الجاهليين من حيث التراكيب والصيغ والأساليب، يقول ابن سلام : » وقال أبو عمرو ابن العلاء في ذلك : ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا، فكيف بما على عهد عاد وثمود مع تداعيه ووهيه « [132] .

    ويعتمد ابن سلام من ناحية ثالثة على تصورات كانت شائعة في البيئة البصرية تؤكد قصر عمر الشعر الجاهلي، بحيث لا يمتد إلى أكثر من ثلاثمائة عام قبل الإسلام وكون الشعر في نشأته القصيرة هذه لا يعدو أنْ يكون سوى مقطوعات قصيرة، ثم طولت بعد هذا التاريخ، يقول ابن سلام: » ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قُصّدتْ القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب، وهاشم بن عبد مناف، وذلك يدل على اسقاط شعر عاد وثمود وحمير وتبع« [133]، ويقول أيضاً إنَّ أول من قصد القصائد وذكر الوقائع المهلهل بن ربيعة التغلبي، في قـتل أخيـه كليب بن وائل« [134].



    الفئة الثانية : رواة متخصصون عابثون :

    وقد عمد مجموعة من الرواة إلى نحل الشعر قاصدين، ومن هؤلاء حماد الراوية وخلف الأحمر، أما حماد الراوية فهناك تأكيد على علمه بالشعر وبكلام العرب، إذ يقول الهيثم بن عَدي » ما رأيت رجلاً أعلم بكلام العرب من حماد « [135]، ويؤكد ذلك الأصمعي، ولكنه يتحرز من وضعه ونحله الشعر على الشعراء يقول » كان حمّاد أعلم الناس إذا نصح يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار فإنه كان متهما لأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب « [136] ويؤكد ابن سلام الجمحي أنَّ حماداً الراوية » غير موثوق به، وكان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار « [137]، وكان يونس يقول : » العجب لمن يأخذ عن حماد، وكان يكذب، ويلحن، ويكسر «[138].

    إنَّ خطورة حماد الراوية أنه كان شاعراً، وكان عالماً بالشعر ومذاهبه، فينحل الشعراء قصائد ينظمها على طرائقهم في النظم ومذاهبهم في الإبداع، ولذلك حمل المفضل الضبي عليه حملة شعواء، قال » قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبداً، فقيل له : وكيف ذلك ؟ أيخطئ في رواية أم يلحن ؟ قال ليته كان كذلك، فإنَّ أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيها، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك « [139] .

    وإذا كان المفضل الضبي متشائماً في شأن حماد الراوية وأضرابه لأنهم أفسدوا الشعر فلا يصلح أبداً، فإنَّ ابن سلام الجمحي يرجع ذلك إلى أهل العلم، ويرى أنهم قادرون على تمييز الصحيح من الزائف، وللعلماء رأيهم في ذلك، فإذا أجمعوا على إبطال شيء من الشعر فليس أمام أحد إلا أن يقبل هذا، ولا يخرج عنه [140] ويؤكد أنه » ليس يشـكل عـلى أهل العلم زيادة الرواة ولاما وضع المولدون « [141] .

    ويدخل في هذا السياق ما يزيده أبناء الشعراء في أشعار آبائهم، وكيف يكشف العالم صحيحه مـن زائفه، إذ يروي ابن سلام عن أبي عبيدة أنَّ » داود بن متمم قدم البصرة ... فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته، وكفيناه ضيعته، فلما نفد شعر أبيه، جعل يزيد في الأشعار، ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والـوقائع التي شهـدها، فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله « [142] .

    وقد تعرض المستشرقون لقضية الانتحال، ويبدو أنَّ المستشرق الألماني تيودور نولدكه أول من لفت الأنظار إلى هذه القضية سنة 1864 م، فقد تحدث عن » تضارب الروايات واختلافها في نصوصها، وعن رواة الشعر الجاهلي، وعن تداخل الشعر بعضه في بعض الأحيان، بحيث يدخل شعر شاعر في شعر غيره، أو ينسب شعر شاعر لغيره
    ثم عن تغيير وتحوير الأشعار المقالة بلهجات القبائل لجعلها موافقة للعربية الفصحى« [143].

    وبعده بثماني سنوات نشر المستشرق وليم إلوارد دواوين الشعراء الستة الجاهليين : امرئ القيس، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وطرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، وعنترة بن شداد، وتوصل إلى نتيجة مفادها » أنَّ القصائد المروية غير موثوق بصحتها سواء من ناحية المؤلف، أو ظروف النظم، أوترتيب الأبيات « [144]، ويتقرر بالنتيجة » أنَّ عدداً قليلاً من القصائد صحيح، ولكن الشك يخيم على ترتيب الأبيات وشكل كل واحد منها، أما بقية الآثار فإنَّ الشك فيها محتوم لا مناص منه « [145] .

    أما كارل بروكلمان فإنه يؤكد ابتداء أنَّ العرب قد عرفوا الكتابة، سواء في شمال الجزيرة العربية أو في جنوبها، ولكنه يؤكد أنَّ » أهل اليمن يعرفون الكتابة ويستعملونها في نقش الآثار الدينية والقانونية على الحجارة منذ ألف عام على الأقل قبل الميلاد، ولا ندري هل استعملـوها أيضاً في أغـراض الحياة الخاصة‏ أو في تسجيل الفن الكلامي بوجه خاص، على مواد أكثر تعرضا للتلاشي والضياع من الحجارة « [146].

    وتعرض بروكلمان إلى أثر الرواية الشفوية في السقط والتغيير والتحريف، على الرغم من » أنَّ ذاكرة العرب الغضة في الزمن القديم كانت أقدر قدرة لا تحد على الحفظ والاستيعاب من ذاكرة العالم الحديث « [147]، وإذا كان ما سلف يحصل سهواً أو نسياناً، فإنَّ بعض الـرواة غيـَّر » بعض أشعار الجاهلية عمداً، ونسبوا بعض الأشعار القديمة إلى شعراء من الجاهلية الأولى، كما يمكن أنْ يكون وضع أشعار قديمة منحولة على مشاهير الأبطال في الزمن الأول لتمجيد بعض القبائل، أكثر مما نستطيع اثباته [148] « .

    إنَّ هذه الأفكار تكاد تقترب من أفكار ابن سلام الجمحي ليصل بروكلمان إلى نتيجة تكاد تماثل النتائج التي توصل إليها ابن سلام، يقول بروكلمان » إنه بالرغم من كل العيوب التي لم يكن منها بد في المصادر القديمة، يبدو أنَّ القصد إلى التشويه والتحريف لم يلعب إلا دوراً ثانوياً« [149].

    أما وليام مارسيه فإنه يذهب إلى القول في » إنَّ كل شيء في الأدب الجاهلي غير موثوق به، فالتاريخ نـزوي، ونسبة الآثار إلى أصحابها مترجرجة واعتباطية إلى حد بعيد، كما أنَّ صحة أبيات عديدة، أو قصائد برمتها لا يعول عليها « [150] .

    ويؤثر بلاشير تكرار وتطوير بعض مقولات المفضل الضبي ويجد نفسه عاجزاً عن التفريق بين ما قاله حماد الراوية وخلف الأحمر، ويخلص من ذلك إلى النتيجة التي توصل إليها المفضل الضبي، في عجزه عن التمييز بين الصحيح والموضوع من الشعر[151]، إنَّ حقيقة الشعر الجاهلي تكمن في أنَّ بلاشير يرى أنَّ ثمة عدداً كبيراً من النصوص الشعرية الصحيحة قد أفسدتها الرواية الشفوية والتدوين، فامتزجت بآثار شعرية منحولة تحاكى في طبيعتها وخصائصها النصوص الشعرية الجاهلية، وليس هناك مجال لتمييزها بخلاف قطع منحولة صنعت بسذاجة وقلة دراية، بحيث يمكن لتجـربة قليلة تكشف عن حقيقتها [152].

    ويتوقف بلاشير عند المقلدات، وهي القصائد المطولة التي تحاكي الشعر الجاهلي ومن الغريب أنه يعدها » أكثر أصالة من الأصيـل « [153] لأنَّ المشكلة تكمـن في الحقيقة في كيفية التمييز بين الأصيل والمنحول، ولأنه من أجل تحقيق هذه الغاية » وجب أنْ يكون في حوزتنا آثار غير مشكوك في صحتها يمكن أن تتخذ معيارا إذا صح التعبير« [154] .

    إنَّ المبالغة في اختلاط الصحيح بالمنحول دفعت بلاشير إلى حكم مبالغ فيه أيضاً ولعل مقولة المفضل الضبي التي يتحدث فيها عن إفساد حماد الراوية للشعر بحيث لا يصلح أبدا قد أثرت في تفكير بلاشير وتصوره، مما دفعه إلى تأكيد اختلاط الصحيح بالمنحول لدرجة يتعذر التمييز بينهما، والحق ان لدينا قصائد صحيحة وصلت إلينا من رواة ثقاة يمكننا الاطمئنان إلى صحتها إجمالا، مما يعني أنَّ حكم بلاشير يشتمل على مبالغة كبيرة .

    ويخلص بلاشير من هذا كله إلى أنَّ » قسماً ضئيلاً من الشعر الجاهلي وصل إلينا وأنَّ كل ما أوجدته الظروف الخاصة فهو من انتخاب الرواة وجامعي المختارات الشعرية أو العلماء . إنَّ هذه النصوص تستحضر صورة جزئية جامدة عما كانت عليه الحياة الأدبية في ذلك العصر « [155] .

    ولعل أخطر ما تعرض إليه بلاشير في قضية الانتحال تأكيده على الاختلاف اللهجي، فهـو يرى » أنَّ لغة الشـعر الجاهلي قـد أصابتها تحريفات متعددة قبيل تدخل الكتابة، ففي النصوص المذكورة استعمل الشعراء، أياً كان عصرهم أو قبائلهم لغة موحدة، منـزهة بصورة عامة على كل أثر لهجي، خاضعة لقواعد تركيبية هي إجمالا قواعد نحاة البصرة، ولاشك في أنَّ القصائد الجاهلية قد جردت بتأثير الرواة الكبار من كثير من الظواهر اللهجية « [156] .

    ولعل أخطر من تعرض لقضية انتحال الشعر الجاهلي هو المستشرق صموئيل مرجليوث [157]الذي نفى أنْ يكون الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا معبراً عن العصر الجاهلي وإنما هو ـ في رأيه ـ نتاج مرحلة تالية لظهور الإسلام .

    وعلى الرغم من تأكيد مرجليوث أنَّ الشعر موجود في العصر الجاهلي، بدليل ذكره في القرآن الكريم، فانه يثير شكاً في كيفية انتقاله إلينا من هذه المرحلة، وهو يفترض أنَّ هناك طريقتين لا ثالث لهما : الكتابة أو الرواية الشفوية، أما الكتابة فلم تكن وسيلة ممكنة في نقل الشعر، وهذا ما يؤكده علماء العربية القدامى والمعاصرون، وأما الرواية الشفوية التي يؤكدها العديد من القدامى والمعاصرين فإن مرجليوث يثير حولها شكوكاً، ويبني شكه على أساس عدة أسباب منها إنَّ نقل القصائد بالرواية الشفوية يقتضي وجود حفظة ينقلونها، »وليس لدينا ما يدعونا إلى الظن بأن حرفة مثل هذه قد وجدت أو انها بقيت خلال العقود الأولى من الإسلام « [158]، كما أنَّ الإسلام كان يحث على نسيان القصائد التي كانت تعبر عن انتصارات القبائل بعضها على بعض، لأنها تثير النفوس وتهيج الدماء « [159] .

    ويؤسس مرجليوث شكه من ناحية أخرى على أساس المماثلة بين لغتي القـرآن الكـريم والشعـر الجاهلي، متخذاً من هذا التماثل دليلاً على أنَّ ما وصلنا من الشعر الجاهلي إنما هو وليد مرحلة لاحقة لظهور الإسلام، يضاف إلى هذا أنَّ مرجليوث يلمح ملاحظات تتجلى في طبيعة القصص الديني والألفاظ الإسلامية التي تشيع في الشعر الجاهلي فضلاً عن خلوه من الآثار الدينية الوثنية .

    أما عن الشك في الرواية الشفوية فقد سبق لنا تناولها، وأكدنا أنَّ الشعر الجاهلي والصحيح منه بخاصة، قد وصلنا بها وقد أحاط بهذه الطريقة رواة ثقاة وعلماء محققون ومما لاشك فيه أنَّ هناك نصوصاً شعرية وفيرة من الشعـر الجاهلي تعبـر عن المرحلة الجاهلية، وتدل على أصحابها، ومعبرة عن الواقع الاجتماعي في إطار سياقه التاريخي .

    أما عن تماثل لغتي القرآن الكريم والشعر الجاهلي أمر يدحضه أنَّ اللغة العربية الموحدة أخذت بالاستقرار والتوحد بوقت غير قصير من ظهور الإسلام، وان الشعراء أخذوا ينظمون قصائدهم بها، كما أنَّ الشعر الجاهلي لا يخلو من مفردات وتراكيب تعبر عن خصائص لهجية معينة، وهذا يعني أنَّ هناك توحداً ليس على مستوى اللغة وحدها، ولكن هناك »مزاجاً حضارياً عاماً قد أخذ منذ أواخر العصر الجاهلي ينتظم هذه البيئة الجاهلية، يقودها إلى التطلع إلى حياة جديدة، وهو مزاج أو قل نقلة حضارية قد قادت إليها ظروف عديدة : سياسية واقتصادية واجتماعية كانت في الحقيقة إرهـاصاً بهذا التغـير الضخم الذي أحـدثه ظهور الإسلام وتمهيداً لـــه « [160] .

    وكان الشعر الجاهلي معبراً عن حياة وثنية وعابثة في العديد من نصوصه، فضلا عن تسرب الكثير من الآثار الأسطورية التي هي امتداد لتصورات موغلة في تاريخ
    الجزيرة العربية .







    ( 4 )

    أما طه حسين فقد أثار ضجة كبيرة بعد صدور كتابه » في الشعر الجاهلي « الذي ألب عليه العديد مـن الـدارسين، فضلا عن المحافظين، لأنهم رأوا فيه طعناً في الدين والعقيدة، وتتجلى بعض ملامح هذا الطعن في تعرضه لشخصيتي إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وتأكيده أنهما لا يعدوان أن يكونا مجرد شخصيتين أسطوريتين، على الرغم من أنَّ القرآن الكريم قد أشار إليهما وتحدث عنهما يقول طه حسين : » للتوراة أنْ تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أنْ يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن، لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها، ونحن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى«[161].

    ومن ملامح الطعن التي أخذوها عليه أيضاً، ما كان يراه طه حسين في شأن القراءات السبع، لأنه يرى أنَّ هذه القراءات ليست »من الوحي في قليل ولا كثير وليـس منكـرها كافـراً ولا فاسقاً ولا مغتمزاً في دينه، وإنما هي قراءات مصدرها اللهجات واختلافها « [162] .

    وقد أعاد طه حسين النظر في كتابه هذا، وفصّل فيه القول في كتابه » في الأدب الجاهلي « وأكد أنَّ » الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم اكثر مما تمثل حياة الجاهليين، ولا أكاد أشك في أنَّ ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي « [163] .

    وقد تفاوتت آراء الدارسين بين من يرى أنَّ طه حسين قد تأثر بالمستشرق صموئيل مرجليوث وبين من يرى أنَّ عدة أشهر بين صدور بحث مرجليوث » أصول الشعر العربي « وصدور كتاب » في الشعر الجاهلي« لا تؤكد هذا التأثر لأنَّ » تأليف طه حسين لهذا الكتاب قد مر بمراحل معينة لها أهميتها في الكشف عن طبيعة الصلة بين كتابه وبحث مرجليوث، فقد كان مشغولاً بتدريسه للطلاب في شكل محاضرات ظل يرددها على مسامعهم عاماً بعد عام، حتى إذا ما ثبت له صحة ما انتهى إليه من الآراء في هذا الشعر وروايته أذاعها بين الناس « [164] .

    ومما لا ريب فيه إنَّ طه حسين كان يطلع بنهم على آراء المستشرقين إلى حد يعرب فيه عن ثنائه وإعجابه الشديد بهم، وفي معرض حديثه عن أحدهم يقول » إني شديد الإعجاب بالأستاذ » هوار« وبطائفة المستشرقين، وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان من النتائج العلمية القيمة في تاريح الأدب العربي « [165].

    وهذا يعني أنه يتأثر خطاهم ويستفيد من مناهجهم بعامة ومن مرجليوث بخاصة على الرغم من قصر الفترة بين نشر بحث مرجليـوث وصدور كتاب » في الشعر الجاهلي « لأنَّ هناك تطابقاً وتشابهاً بين تصوريهما، بل نستطيع القول إنَّ طه حسين فصَّل القول في النقطتين الجوهريتين اللتين تعرض لهما مرجليوث وهما :

    إن الأدب الجاهلي لا يصور حياة العرب الجاهلية الدينية والسياسية والاقتصادية ولذلك فإنه من أجل دراسة حياة العرب الجاهلية فإنه لا يرجع إلى الشعر لأنه لا يعبر عن هذه الحياة، ولذلك فهو ينكر أنْ يمثل هذا الأدب الحياة الجاهلية، ولذلك فإنه لا يسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير وإنما يسلك إليها طـريقا آخـر » في نص لا سبيـل إلى الشك في صحته ...(هو) القرآن « [166] .

    إن الأدب الجاهلي لا يعبر عن لغة العرب الجاهلية واختلاف لهجاتها، ويستدل على ذلك بقراءة المعلقات ـ مثلا ـ التي هي في حقيقتها لشعـراء من قبائـل متعددة، ويرى أنها صورة للغة واحدة وليست ذات خصائص لهجية مختلفة، أذ يرى » أنَّ كل شيء في هذه المطولات يدل على أنَّ اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيراً ما فنحن بين أثنين : إما أنْ نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان لا في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي، وإما أنْ نعترف بأنَّ هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل، وإنما حمل عليها بعد الإسلام حملا، ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى « [167] .

    ولا نريد أنْ نكرر القول في الرد على هاتين النقطتين، فقد سبق أنْ تناولناهما في أثناء حديثنا عن المستشرقين بعامة، ومرجليوث بخاصة، ولكن من المفيد أن نؤكد أنَّ منهج طه حسين كان يفتقر إلى مقومين أساسيين وهما :

    فساد المقدمات التي أرسى في ضوئها تصوراته مما أثر في صحة النتائج . ومما يدخل في هذا السياق تغيير طه حسين للنصوص التي يقتبسها من كتب القدامى لتعضيد وجهة نظره، فهو ينقل عن ابن سلام الجمحي رواية عن أبي عمرو بن العلاء مفادها » ما لسان حمير بلساننا ولالغتهم بلغتنا « [168] وصوابه » ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا [169] « .

    افتقار منهجه إلى استقراء كامل للنصوص الشعرية مما جعل أحكامه أقرب إلى الظن منها إلى اليقين[170] .

    ويكرر طه حسين بعض آراء ابن سلام الجمحي ويضيف إليها أخريات، مما لا مبرر لإعادة الحديث عنه أو التفصيل فيه، و كأن طه حسين يتحدث عن أسباب النحل فيرجعها إلى أسباب سياسية ودينية أو يرجعها إلى الرواة أو إلى أثر القصص أو
    إلى الشعوبية .

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 09, 2024 2:18 pm